للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فلم يكن إلا أن وضع سلاحَه فجاءه جبريل فقال: أوضعت السلاح؟ إن الملائكة لم تضع أسلحتها، فانهض بمن معك إلى بني قريظة، فإني سائِرٌ أمامَك أزلزل بهم حصونهم وأقذف في قلوبهم الرعب، فسار جبريل في موكبه من الملائكة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أثره في موكبه من المهاجرين والأنصار، وقال لأصحابه يومئذ: «لا يصلين أحدٌ منكم العصرَ إلا في بني قريظة» (١)، فبادَروا إلى امتثال أمره ونهضوا من فورهم، فأدركتهم العصرُ في الطريق، فقال بعضهم: لا نصليها إلا في بني قريظة كما أَمرَنا، فصلَّوها بعد عشاء الآخرة، وقال بعضهم: لم يُرِد منا ذلك وإنما أراد سرعة الخروج، فصلَّوها في الطريق؛ فلم يُعنِّف واحدةً من الطائفتين.

واختلف الفقهاء أيهما كان أصوب؟ فقالت طائفة: الذين أخَّروها هم المُصيبون، ولو كنَّا معهم لأخَّرناها كما أخروها، ولما صلَّيناها إلا في بني قريظة امتثالًا لأمره وتركًا للتأويل المخالف للظاهر (٢).

وقالت طائفة أخرى: بل الذين صلوها في الطريق في وقتها حازوا قَصَبَ السَّبْق، وكانوا أسعدَ بالفضيلتين، فإنهم بادروا إلى امتثال أمره في الخروج، وبادروا إلى مرضاته في الصلاة في وقتها، ثم بادروا إلى اللَّحاق بالقوم، فحازوا فضيلة الجهاد وفضيلة الصلاة في وقتها، وفهموا ما يُراد منهم، وكانوا أفقهَ من الآخرين، ولا سيَّما تلك الصلاة، فإنها كانت صلاة العصر، وهي


(١) أخرجه البخاري (٩٤٦) من حديث ابن عمر.
(٢) لعل المؤلف يقصد ابنَ حزم الذي قال في «جوامع السيرة» (ص ١٩٢): «وعَلِم اللهُ تعالى أننا لو كنا هناك ما صلَّينا العصر في ذلك اليوم إلا في بني قريظة ولو بعد أيَّام!».