ولما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس للناس، فجاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعةً وثمانين رجلًا، فقبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله (١).
وجاءه كعب بن مالك فلما سلم عليه تبسَّم تبسُّمَ المُغضَب، ثم قال له:«تعال»، قال: فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال لي:«ما خلَّفك، ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر ولقد أُعطِيتُ جدلًا، ولكني والله لقد علمتُ إنْ حدثتك اليوم حديث كذبٍ ترضى به عليَّ ليوشكَنَّ اللهُ أن يُسخطك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدقٍ تجد عليَّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذرٍ، والله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك»، فقمت وثار رجال من بني سلِمة فاتبعوني يؤنبوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، ولقد عجَزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما اعتذر إليه المخلَّفون، فقد كان كافيك ذنبَك استغفارُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك، قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذِّب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثلَ ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلتُ: من هما؟ قالوا: مُرارة بن الربيع العامري وهِلال بن أُميَّة الواقِفي، فذكروا لي رجلَين صالحَين شهدا بدرًا
(١) هو جزء من حديث كعب بن مالك الآتي، وسيأتي تخريجه في آخره.