ومنها: جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته مِن إسلامِ مَن يُرجى إسلامه أو إقامةِ الحجة عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة، فليُوَلِّ ذلك أهلَه، وليُخَلِّ بين المطيِّ وحاديها والقوسِ وباريها، ولولا خشية الإطالة لذكرنا من الحجج التي تُلزم أهلَ الكتابين الإقرارَ بأنه رسول الله، بما في كتبهم، وبما يعتقدونه، وبما لا يمكنهم دفعه= ما يزيد على مائة طريقٍ، ونرجو من الله سبحانه إفرادها بمصنَّفٍ مستقل (١).
ودار بيني وبين بعض علمائهم مناظرة في ذلك فقلت له في أثناء الكلام: لا يتم لكم القدح في نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلا بالطعن في الرب تبارك وتعالى، والقدحِ فيه ونسبته إلى أعظم الظلم والسَّفَه والفساد ــ تعالى الله عن ذلك ــ، فقال كيف يلزمنا ذلك؟ قلت: بل أبلغ من ذلك، لا يتم لكم ذلك إلا بجحوده وإنكار وجوده تعالى، وبيان ذلك: أنه إذا كان محمد عندكم ليس بنبيٍّ صادق، وهو بزعمكم ملك ظالم، فقد تهيَّأ له أن يفتري على الله ويتقوَّل عليه ما لم يقله، ثم يتمُّ له ذلك ويستمر حتى يُحرِّم ويحلِّل، ويفرض الفرائض، ويُشرِّع الشرائع، وينسخ الملل، ويضرب الرقاب، ويقتل أتباعَ الرسل وهم أهل الحق، ويسبي نساءهم وأولادهم، ويغنم أموالهم وديارهم، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض ويَنسب ذلك كلَّه إلى أمر الله له به ومحبته له، والربُّ تعالى يشاهده وما يفعل بأهل الحق وأتباع الرسل وهو مستمرٌّ في الافتراء عليه ثلاثًا وعشرين سنةً، وهو مع ذلك كلِّه يؤيده وينصره ويُعلي أمرَه، ويُمكِّن له من أسباب النصر الخارجةِ عن عادة البشر.
(١) لم نجد له ذكرًا عند مترجميه، ولعل المؤلف لم يفرغ له، غير أنه ذكر طرفًا يسيرًا من تلك الطرق والدلائل في آخر «هداية الحيارى» (ص ٤٣٠ - ٤٥٠).