للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد آثرت عائشةُ عمرَ بن الخطاب بدفنه في بيتها جوارَ النبي - صلى الله عليه وسلم - (١)، وسألها عمر ذلك فلم يُكرَه له السؤالُ ولا لها البذلُ، وعلى هذا فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول لم يكره له السؤال ولا لذلك البذل، ونظائرُه.

ومن تأمل سيرة الصحابة وجدهم غير كارهين لذلك ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرم وسخاء، وإيثار على النفس بما هو مِن أعظم محبوباتها، وتفريحًا (٢) لأخيه المسلم، وتعظيمًا لقدره، وإجابةً له إلى ما سأله، وترغيبًا له في الخير؛ وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحًا على ثواب تلك القربة، فيكون المُؤْثر بها ممن تاجر فبذل قربةً وأخذ أضعافَها.

وعلى هذا فلا يمتنع أن يؤثر صاحب الماء بمائه أن يُتوضأ به ويتيمَّم هو، إذ (٣) كان لا بد من تيمم أحدهما، فآثر أخاه وحاز فضيلة الإيثار وفضيلةَ الطهر بالتراب، ولم يمنع من هذا كتاب ولا سنة ولا مكارم أخلاق.

وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف، ومع بعضهم ماء فآثر به على نفسه واستسلم للموت كان ذلك جائزًا، ولم نقُل إنه قاتل لنفسه ولا إنه فعل محرمًا، بل هذا غاية الجود والسخاء كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: ٩]، وقد جرى هذا بعينه لجماعة من


(١) أخرجه البخاري (١٣٩٢).
(٢) كذا في الأصول منصوبًا، والوجه الرفع. وفي المطبوع حُذفت واو العطف لينتصب على الحال أو العلة.
(٣) المطبوع: «إذا»، خطأ.