للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم جاؤوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يودِّعُونه فأرسل إليهم بلالًا فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود، قال: «هل بقي منكم أحد؟» قالوا: غلام خلَّفناه على رحالنا هو أحدثنا سنًّا، قال: «أرسلوه إلينا»، فلما رجعوا إلى رحالهم قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقضِ حاجتك منه فإنا قد قضينا حوائجنا منه وودَّعْناه، فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني امرؤ من بني أبذى (١) ــ يقول: من الرهط الذين أتوك آنفًا فقضيت حوائجهم ــ فاقضِ حاجتي يا رسول الله، قال: «وما حاجتك؟» قال: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي وإن كانوا قدموا راغبين في الإسلام وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإني والله ما أعمَلَني (٢) من بلادي إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني وأن يجعل غناي في قلبي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبل إلى الغلام: «اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه»، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم.

ثم وافوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الموسم بمنًى سنة عشر، فقالوا: نحن بنو أبذى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟» قالوا: يا رسول الله، ما رأينا مثلَه قط، ولا حُدِّثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحمد لله، إني لأرجو أن يموت جميعًا»، فقال رجل منهم: أوليس يموت الرجل جميعًا يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تَشَعَّبُ أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا، فلعل أجلَه أن يدركه في بعض تلك الأودية فلا يبالي الله عز وجل في


(١) بطن من تجيب، وهو أبذى بن عدي بن أشرس.
(٢) أي: ما حثَّني وساقني.