اللَّبن وإن كان بسيطًا في الحسِّ، إلا أنَّه مركَّبٌ في أصل الخلقة تركيبًا طبيعيًّا من جواهر ثلاثةٍ: الجبنيَّة، والسَّمْنيَّة، والمائيَّة. فالجبنيَّة: باردةٌ رطبةٌ، مغذِّيةٌ للبدن. والسَّمنيَّة: معتدلة في الحرارة والرُّطوبة، ملائمةٌ للبدن الإنسانيِّ الصَّحيح، كثيرة المنافع. والمائيَّة: حارَّةٌ رطبةٌ، مطلقةٌ للطَّبيعة، مرطِّبةٌ للبدن.
واللَّبن على الإطلاق أرطب وأبرد من المعتدل. وقيل: قوَّته عند حلبه الحرارة والرُّطوبة. وقيل: معتدلٌ في الحرارة والبرودة.
وأجود ما يكون اللَّبن حين يُحلَب، ثمَّ لا يزال تنقص جودته على ممرِّ السَّاعات. فيكون حين يُحلَب أقلَّ برودةً، وأكثر رطوبةً. والحامض بالعكس.
ويختار اللَّبن بعد الولادة بأربعين يومًا. وأجوده: ما اشتدَّ بياضه، وطاب ريحه، ولذَّ طعمه، وكان فيه حلاوةٌ يسيرةٌ ودسومةٌ معتدلةٌ، واعتدل قوامه في الرِّقَّة والغلظ، وحُلِب من حيوانٍ فتيٍّ صحيحٍ، معتدلِ اللَّحم، محمودِ المرعى والمشرب. وهو محمودٌ، يولِّد دمًا جيِّدًا، ويرطِّب البدن اليابس، ويغذو غذاءً حسنًا، وينفع من الوسواس والغمِّ والأمراض السَّوداويَّة. وإذا شُرِب مع العسل نقَّى القروح الباطنة من الأخلاط العَفِنة. وشربُه مع السُّكَّر يحسِّن اللَّون جدًّا.
والحليب يتدارك ضرر الجماع، ويوافق الصَّدر والرِّئة، جيِّدٌ لأصحاب السِّلِّ، رديٌّ للرَّأس والمعدة والكبد والطِّحال. والإكثار منه مضرٌّ بالأسنان واللِّثة. ولذلك ينبغي أن يتمضمض بعده بالماء. وفي «الصَّحيحين»(١) أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - شرب لبنًا، ثمَّ دعا بماءٍ، فتمضمض، وقال:«إنَّ له دَسَمًا».