للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثمَّ نقول: لم يخالف عمر إجماعَ من تقدَّمه، بل رأى إلزامهم بالثَّلاث عقوبةً لهم لمَّا علموا أنَّه حرامٌ وتتايعوا فيه، ولا ريبَ أنَّ هذا سائغٌ للأئمَّة أن يُلزِموا النَّاس بما ضيَّقوا به على أنفسهم، ولم يقبلوا فيه رخصة الله عزَّ وجلَّ وتسهيلَه ورخصتَه (١)، بل اختاروا الشِّدَّة والعسر، فكيف بأمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -، وكمالِ نظره للأمَّة، وتأديبِه لهم! ولكنَّ العقوبة تختلف باختلاف الأزمنة والأشخاص، والتَّمكُّن من العلم بتحريم الفعل المعاقَب (٢) عليه وخفائه، وأمير المؤمنين - رضي الله عنه - لم يقل لهم: إنَّ هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّما هو رأيٌ رآه مصلحةً للأمَّة يَكُفُّهم بها عن التَّسارع إلى إيقاع الثَّلاث، ولهذا قال: «فلو أنَّا أَمضَيناه عليهم»، وفي لفظٍ: «فأَجِيزوهنَّ عليهم». أفلا ترى أنَّ هذا رأيٌ منه رآه للمصلحة لا إخبارٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ولمَّا علم - رضي الله عنه - أنَّ تلك الأناة والرُّخصة نعمةٌ من الله على المُطلِّق، ورحمةٌ به، وإحسانٌ (٣) إليه، وأنَّه قابلها بضدِّها، ولم يقبل رخصةَ اللَّه وما جعلَه له من الأناة= عاقبَه بأن حالَ بينه وبينها، وألزمه ما ألزمه من الشِّدَّة والاستعجال.

وهذا موافقٌ لقواعد الشَّريعة، بل هو موافقٌ لحكمة الله في خلقه قدرًا وشرعًا، فإنَّ النَّاس إذا تعدَّوا حدوده، ولم يقفوا عندها، ضيَّق عليهم ما جعله لمن اتَّقاه من المخرج، وقد أشار إلى هذا المعنى بعينه من قال من الصَّحابة للمطلِّق ثلاثًا: إنَّك لو اتَّقيتَ الله لجعلَ لك مخرجًا، كما قال ابن مسعودٍ


(١) «ورخصته» ليست في المطبوع.
(٢) د: «الغالب»، خطأ.
(٣) في النسخ: «وإحسانًا».