للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

واعتبار بعضه ببعضٍ، والاستدلال ببعضه على بعضٍ. والله سبحانه له الخلق والأمر، ومصدُر خلقه وأمره عن حكمةٍ لا تختلُّ ولا تعطَّل (١) ولا تنتقض، ومن صَرفَ قوى ذهنه وفكره، واستنفدَ (٢) ساعاتِ عمره في شيءٍ من أحكام هذا العالم وعلمه، كان له فيه من النُّفوذ والمعرفة والاطِّلاع ما ليس لغيره.

ويكفي الاعتبارُ بفرعٍ واحدٍ من فروعه، وهو عبارة الرُّؤيا، فإنَّ العبد إذا نفَذَ فيها وكملَ اطِّلاعُه جاء بالعجائب. وقد شاهدنا نحن وغيرنا من ذلك أمورًا عجيبةً، يحكم فيها المعبِّر بأحكامٍ متلازمةٍ صادقةٍ سريعةٍ وبطيئةٍ، يقول سامعها: هذه علم غيبٍ. وإنَّما هي معرفة ما غاب عن غيره بأسبابٍ انفرد هو بعلمها، وخفيت على غيره.

والشَّارع صلوات الله وسلامه عليه حرَّم مِن تَعاطِي ذلك ما مضرَّته راجحةٌ على منفعته، أو ما لا منفعة فيه، أو ما يُخشى على صاحبه أن يَجُرَّه إلى الشِّرك، وحرَّم بذل المال في ذلك، وحرَّم أخذَه به؛ صيانةً للأمَّة عمَّا يُفسد عليها الإيمان أو يَخْدِشه، بخلاف علم عبارة الرُّؤيا، فإنَّه حقٌّ لا باطلٌ؛ لأنَّ الرُّؤيا مستندةٌ إلى الوحي المناميِّ، وهي جزءٌ من أجزاء النُّبوَّة؛ ولهذا كلَّما كان الرَّائي أصدقَ كانت رؤياه أصدقَ، وكلَّما كان المعبِّر أصدقَ وأبرَّ وأعلمَ كان تعبيره أصحَّ، بخلاف الكاهن والمنجِّم وأضرابهما ممَّن لهم مددٌ من إخوانهم من الشَّياطين؛ فإنَّ صناعتهم لا تصحُّ من صادقٍ ولا بارٍّ ولا متقيِّدٍ بالشَّريعة، بل هم أشبهُ بالسَّحرة الذين كلَّما كان أحدهم أكذبَ وأفجرَ وأبعدَ عن الله ورسوله ودينه، كان السِّحر معه أقوى وأشدَّ تأثيرًا، بخلاف كلِّ ما كان


(١) كذا في النسخ بتاء واحدة. وفي المطبوع: «تتعطل».
(٢) ص، د، ز، م: «واستنفذ».