للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الغذاءُ حتَّى يُغني عن غذاء الأجسام مدَّةً من الزَّمان، كما قيل (١):

لها أحاديثُ من ذكراك تَشْغَلُها ... عن الشَّراب وتُلهِيها عن الزَّادِ

لها بوجهك نورٌ تستضيء به ... ومن حديثك في أعقابها حادي

إذا شَكَتْ (٢) من كَلالِ السَّير أوعدَها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد

ومن له أدنى تجربةٍ وذوق (٣) يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والرُّوح عن كثيرٍ من الغذاء الحيوانيِّ، ولا سيَّما المسرور الفرحان الظَّافر بمطلوبه، الذي قد قرَّت عينُه بمحبوبه، وتنعَّم بقربه، والرِّضى عنه، وألطافُ محبوبه وهداياه وتُحَفُه تصل إليه كلَّ وقتٍ، ومحبوبه حفيٌّ به، معتنٍ بأمره، مُكرِمٌ له غايةَ الإكرام مع المحبَّة التَّامَّة له، أفليس في هذا أعظمُ غذاءٍ لهذا المحبِّ؟ فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجلُّ منه ولا أعظم ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم إحسانًا إذا امتلأ قلب المحبِّ بحبِّه، وملكَ حبُّه (٤) جميعَ أجزاء قلبه وجوارحه، وتمكَّن حبُّه منه أعظمَ تمكُّنٍ. وهذا حاله مع حبيبه، أفليس هذا المحبُّ عند حبيبه يُطعمه ويَسقيه ليلًا ونهارًا؟ ولهذا قال: «إنِّي أظلُّ عند ربِّي يُطعمني ويَسقيني». ولو كان ذلك طعامًا وشرابًا للفم لما كان صائمًا فضلًا عن أن يكون مواصلًا.


(١) الأبيات لإدريس بن أبي حفصة في «ديوان المعاني» (١/ ٦٣) وغيره. وأنشدها المؤلف في «روضة المحبين» (ص ١١٣، ١١٤)، وهناك التخريج.
(٢) ك: «اشتكت».
(٣) ق، م، مب: «شوق». والمثبت من بقية النسخ.
(٤) بعدها في ص، ج، ك، ع: «عليه». وليست في ق، م، مب.