للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من مشقَّة السَّفر، ولأنَّ المصلحة الحاصلة بالفطر للمجاهد أعظم من المصلحة بفطر المسافر، ولأنَّ الله تعالى قال: {يُعْجِزُونَ (٥٩) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [الأنفال: ٦٠]. والفطر عند اللِّقاء من أعظم أسباب القوَّة، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فسَّر القوَّة بالرَّمي (١)، وهو لا يتمُّ ولا يحصل به مقصوده إلا بما يقوِّي ويُعِين عليه من الفطر والغذاء. ولأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال للصَّحابة لمَّا دَنَوا من عدوِّهم: «إنَّكم قد دنوتم من عدوِّكم، والفطر أقوى لكم»، وكانت رخصةً، ثمَّ نزلوا منزلًا آخر فقال: «إنَّكم مُصبِّحو عدوِّكم، والفطر أقوى لكم فأفطِروا» وكانت عزيمةً (٢). فعلَّل بدنوِّهم من عدوِّهم واحتياجهم إلى القوَّة الَّتي يَلقَون بها العدوَّ.

وهذا سببٌ آخر غير السَّفر، والسَّفر مستقلٌّ بنفسه، ولم يذكره في تعليله ولا أشار إليه، فالتَّعليل به اعتبارٌ لما ألغاه الشَّارع في هذا الفطر الخاصِّ، وإلغاء وصف القوَّة الَّتي يقاوم بها العدوُّ، واعتبار السَّفر المجرَّد إلغاءٌ لما اعتبره الشَّارع وعلَّل به.

وبالجملة فتنبيه الشَّارع وحكمته يقتضي أنَّ الفطر لأجل الجهاد أولى منه لمجرَّد السَّفر، فكيف وقد أشار إلى العلَّة ونبَّه عليها وصرَّح بحكمها، وعزم عليهم بأن يفطروا لأجلها. ويدلُّ عليه ما رواه عيسى بن يونس، عن شعبة، عن عمرو بن دينارٍ، قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه يوم فتح مكَّة: «إنَّه يوم قتالٍ فأفْطِروا» تابعه سعيد بن الرَّبيع، عن شعبة (٣). فعلَّل بالقتال ورتَّب عليه الأمر بالفطر بحرف الفاء، وكلُّ أحدٍ يفهم


(١) رواه مسلم (١٩١٧) من حديث عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - .
(٢) رواه مسلم (١١٢٠) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - .
(٣) رواه بالطريقين محمد بن المظفر البغدادي في «حديث شعبة» (١٧٧، ١٧٦)، ورواه عبد الرزاق (٩٦٨٨) من طريق شعبة عن عمرو بن دينارعن عبيد بن عمير مرسلًا.