للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: ٢ - ٣]، فجعل التَّوكُّل بعد التَّقوى التي هي قيامٌ بالأسباب المأمور بها، فحينئذٍ إذا توكَّل على اللَّه فهو حسبه (١)، وكما قال في موضعٍ آخر: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة: ١١]، فالتَّوكُّل والحَسْب بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجزٌ محضٌ، وإن كان مَشُوبًا بنوعٍ من توكُّلٍ فهو توكُّل عجزٍ، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكُّله عجزًا، ولا يجعل عجزه توكُّلًا، بل يجعل توكُّلَه من جملة الأسباب المأمور بها التي لا يتمُّ المقصود إلا بها كلِّها.

ومن هاهنا غَلِطَ طائفتان من النَّاس:

إحداهما: زعمت أنَّ التَّوكُّل وحده سببٌ مستقلٌّ كافٍ في حصول المراد، فعَطَّلت له الأسبابَ الَّتي اقتضتْها حكمة الله مُوصِلةً إلى مسبَّباتها، فوقعوا في نوع تفريطٍ وعجزٍ بحسب ما عطَّلوا من الأسباب، وضَعُفَ توكُّلُهم من حيث ظنُّوا قوَّته بانفراده عن الأسباب، فجمعوا الهمَّ كلَّه وصيَّروه همًّا واحدًا. وهذا وإن كان فيه قوَّةٌ من هذا الوجه، ففيه ضَعفٌ من جهةٍ أخرى، فلما قوي جانبُ التَّوكُّل بإفراده أضعفَه التَّفريطُ في السَّبب الذي هو محلُّ التَّوكُّل، فإنَّ التَّوكُّل محلُّه الأسباب، وكماله بالتَّوكُّل على الله فيها، وهذا كتوكُّل الحَرَّاث الذي شَقَّ الأرض، وألقى فيها البذر، وتوكَّلَ على الله في زرعه وإنباتِه، فهذا قد أعطى التَّوكُّل حقَّه، ولم يُضعِف توكُّلَه بتعطيل الأرض وتخليتها بُوْرًا. وكذلك توكُّل المسافر في قطع المسافة مع جِدِّه في السَّير،


(١) «فجعل التوكل ... حسبه» ليست في ق، ب، مب. وكتبت في ص ثم شطب عليها. والمثبت من بقية النسخ.