للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حَتْم؛ وإنما الخيرة في قول غيره إذا خفي أمره، وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع، لا واجب الاتباع. فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه، بل غايته أنه يسوغ له اتباعه، ولو ترك الأخذ بقوله لم يكن عاصيًا لله ورسوله.

فأين هذا ممن يجب على جميع المكلَّفين اتباعُه، ويحرم عليهم مخالفتُه، ويجب عليهم تركُ كلِّ قولٍ لقوله؛ فلا حكم لأحد معه، ولا قول لأحد معه، كما لا تشريع لأحد معه؟ وكلُّ من سواه، فإنما يجب اتباعه على قوله إذا أمر بما أمر به، ونهى عما نهى عنه، فكان مبلِّغًا محضًا، ومخبرًا لا منشئًا ومؤسِّسًا. فمن أنشأ أقوالًا وأسَّس قواعد بحسب فهمه وتأويله لم يجب على الأمة اتباعها، ولا التحاكم إليها حتى تُعرَض على ما جاء به (١)، فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة قُبِلت حينئذ، وإن خالفته وجب ردُّها واطِّراحُها. وإن لم يتبين فيها أحد الأمرين جُعلت موقوفةً، وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها وتركه، وأما أن (٢) يجب ويتعيَّن فكلَّا ولمَّا (٣)!


(١) في طبعة الفقي بعده زيادة: «الرسول»، وهي عمدة طبعة الرسالة كما ذكرنا في مقدمة التحقيق.
(٢) ق، مب، ن: «أنه».
(٣) لم أجد في كلام العرب أو كتب العربية استعمال «لمَّا» مفردةً أو معطوفة على «كلَّا» كما هنا، لزجر المخاطب والردِّ عليه. وقد جاء في قول فتيان الشاغوري الدمشقي (ت ٦١٥) في «ديوانه» (ص ٤٧٢):
إذا أنا سُمْتُ حسنَ الصبر قلبي ... أباه وقال لي: كلَّا ولمَّا
وأظن أنه اقتبسه من قول العجاج (التهذيب ١٠/ ٣٦٤):
قد طلبت شيبانُ أن يُصاكموا ... كلَّا، ولمَّا تصطفِقْ مآتمُ
ونقله بعد حذف الفعل المجزوم بها من سياق التهديد إلى توكيد معنى الإنكار مطلقًا. وقد استعمل شيخ الإسلام هذا التعبير في «بيان الدليل» (ص ٣٧٧)، والمصنف في «الطرق الحكمية» (٢/ ٥٦٠) و «مفتاح دار السعادة» (٢/ ٨٩٦) وغيرهما أيضًا. وسيأتي مرة أخرى في هذا الكتاب (٦/ ٢٧٥). وجاء في «البداية والنهاية» (٨/ ٩٩) في مثل هذا السياق: «حاشا وكلَّا ولمَّا»!