ولذلك قالت له أم سلمة:«اخرج ولا تُكلِّم أحدًا حتى تحلق رأسك وتنحر هديك» وعلمَتْ أن الناس سيتابعونه.
فإن قيل: فكيف فعلوا ذلك اقتداءً بفعله ولم يمتثلوه حين أمرهم به؟ قيل: هذا هو السبب الذي لأجله ظنَّ من ظنَّ أنهم أخَّروا الامتثال طمعًا في النسخ، فلما فعل - صلى الله عليه وسلم - ذلك علموا حينئذ أنه حكم مستقر غيرُ منسوخ، وقد تقدم فساد هذا الظن، ولكن لما تغيَّظ عليهم وخرج ولم يكلِّمهم وأراهم أنه قد بادر إلى امتثال ما أمر به وأنه لم يؤخر كتأخيرهم، وأن اتباعَهم له وطاعتَهم توجب اقتداءهم به= بادروا حينئذ إلى الاقتداء به وامتثال أمره.
ومنها: جواز صلح الكفار على رد من جاء منهم إلى المسلمين وأن لا يُرَدَّ من ذهب من المسلمين إليهم. هذا في غير النساء، وأما في النساء فلا يجوز اشتراط ردهن إلى الكفار. وهذا موضع النسخ خاصةً في هذا العقد بنصِّ القرآن، فلا سبيل إلى دعوى النسخ في غيره بغير موجِب.
ومنها: أن خروج البُضع من ملك الزوج مُتقوَّم، ولذلك أوجب الله سبحانه ردَّ المهر على من هاجرت امرأتُه وحيل بينه وبينها وعلى من ارتدت امرأته من المسلمين إذا استحق الكفار عليهم ردَّ مهور من هاجر إليهم من أزواجهم، وأخبر أن ذلك حكمه الذي حكم به بينهم، ثم لم ينسخه شيء. وفي إيجابه ردَّ ما أعطى الأزواج من ذلك دليل على تقوُّمه بالمسمَّى لا بمهر المثل.
ومنها: أن شرطَ ردِّ من جاء من الكفار إلى الإمام لا يتناول من خرج منهم مسلمًا إلى غير بلد الإمام، وأنه إذا جاء إلى بلد الإمام لا يجب عليه ردُّه بدون الطلب؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يردَّ أبا بصير حين جاءه ولا أكرهه على الرجوع، ولكن لما جاءوا في طلبه مكَّنهم مِن أخذه ولم يُكرهه على الرجوع.