للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يعطي المشركين كلَّ ما سألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحابه ورؤوسهم، وهو - صلى الله عليه وسلم - يعلم ما في ضمن هذا المكروه من محبوب {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: ٢١٦].

وربما كان مكروه النفوس إلى ... محبوبها سببًا ما مِثلُه سببُ (١)

فكان يدخل على تلك الشروط دخولَ واثقٍ بنصر الله له وتأييده، وأن العاقبة له، وأن تلك الشروطِ واحتمالَها هو عين النصرة، وهي من أكبر الجند الذي أقامه المشترطون ونصبوه لحربهم وهم لا يشعرون، فذَلُّوا من حيث طلبوا العزَّ، وقُهِروا من حيث أظهروا القدرة والفخر والغلبة، وعزَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وعساكر الإسلام من حيث انكسروا لله واحتملوا الضيم له وفيه؛ فدار الدَّورُ وانعكس الأمر وانقلب العزُّ بالباطل ذلًّا بحقٍّ وانقلبت الكسرة لله عزًّا بالله، وظهرت حكمةُ الله وآياتُه وتصديقُ وعدِه ونَصْرُ رسوله على أتم الوجوه وأكملها التي لا اقتراح للعقول وراءها.

ومنها: ما سبَّبه الله سبحانه للمؤمنين من زيادة الإيمان والإذعان والانقياد على ما أحبُّوا وكرهوا، وما حصل لهم في ذلك من الرضى بقضاء الله وتصديق موعوده وانتظارِ ما وُعِدوا به وشهودِ منة الله عليهم ونعمته بالسكينة التي أنزلها في قلوبهم أحوجَ ما كانوا إليها في تلك الحال التي تَزعزَعُ لها الجبال، فأنزل عليهم من سكينته ما اطمأنت به قلوبهم وقويت به نفوسُهم


(١) البيت للبُحتُري كما في «البصائر والذخائر» (٦/ ١٩٠) و «أدب الدنيا والدين» (ص ٣١٠) و «التذكرة الحمدونية» (٤/ ٩٧). وقد أنشده المؤلف في مواضع من كتبه، منها: «إغاثة اللهفان» (٢/ ٨١٨) و «طريق الهجرتين» (١/ ٣٤٨).