للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بمحبته. والله تعالى قد اتخذه خليلًا، والخُلَّة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة، وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها. فلما أخذ الولدُ شعبةً من قلب الوالد جاءت غيرةُ الخُلَّة تنزعها من قلب الخليل، فأمره بذبح المحبوب. فلما أقدم على ذبحه وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد خلصت الخُلَّة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبق في الذبح مصلحة، إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس. وقد حصل المقصود، فنُسِخ الأمر، وفُدي الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا، وحصل مراد الرَّبِّ سبحانه. ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار إنما حصل عند أول مولود، ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول، بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخُلَّة ما يقتضي الأمر بذبحه. وهذا في غاية الظهور.

وأيضًا فإنَّ سارة امرأة الخليل - صلى الله عليه وسلم - غارت من هاجر وابنها أشدَّ الغيرة، فإنها كانت جاريةً، فلما ولدت إسماعيل وأحبَّه أبوه اشتدَّت غيرةُ سارة، فأمره الله سبحانه أن يُبعد عنها هاجر وابنها، ويُسكِنهما في أرض مكة، لتبرد (١) عن سارة حرارة (٢) الغيرة. وهذا من رحمته ورأفته بها، فكيف يأمره سبحانه بعد هذا أن يذبح ابنها، ويدع ابن الجارية بحاله؟ هذا مع رحمته لها وإبعاد الضَّرَّة عنها، وجبره لها؛ فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية؟ بل حكمته البالغة ــ سبحانه ــ اقتضت أن أمَرَ بذبح ولد السُّرِّيَّة، فحينئذ ترِقُّ عليها السِّتُّ وعلى ولدها، وتتبدَّل قسوةُ الغيرة رحمةً، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتًا هذه وابنها منهم؛ ولِيُريَ


(١) ج، ك، ع، ن: «ليبرد».
(٢) في ع: «حرارة» بالنصب.