للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حصل له من الأغذية القلبيَّة ما تقوى به قوى طبيعته، وتنتعش به قواه أعظم من قوَّتها وانتعاشها بالأغذية البدنيَّة. وكلَّما قوي إيمانُه وحبُّه لربِّه وأنسُه به وفرحُه به، وقوي يقينه بربِّه، واشتدَّ شوقه إليه ورضاه به وعنه= وجد في نفسه من هذه القوَّة ما لا يعبَّر عنه، ولا يدركه وصفُ طبيبٍ، ولا يناله علمُه.

ومن غلُظ طبعُه وكثُفت نفسُه عن فهم هذا والتَّصديق به، فلينظر حال كثيرٍ من عشَّاق الصُّور الذين قد امتلأت قلوبهم بحبِّ ما يعشقونه من صورةٍ أو جاهٍ أو مالٍ أو علمٍ. وقد شاهد النَّاس من هذا عجائبَ في أنفسهم وفي غيرهم.

وقد ثبت في الصَّحيح عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان يواصل في الصِّيام الأيَّامَ ذواتِ العدد، وينهى أصحابه عن الوصال، ويقول: «لست كهيئتكم، إنِّي أظَلُّ يُطعمني ربِّي ويسقيني» (١). ومعلومٌ أنَّ هذا الطَّعام والشَّراب ليس هو الطَّعام الذي يأكله الإنسان بفمه، وإلَّا لم يكن مواصلًا، ولم يتحقَّق الفرق، بل لم يكن صائمًا، فإنَّه قال: «أظَلُّ يُطعمني ربِّي ويسقيني».

وأيضًا فإنَّه فرَّق بينه وبينهم في نفس الوصال، وأنَّه يقدر منه على ما لا يقدرون عليه. فلو كان يأكل ويشرب بفمه لم يقل: «لستُ كهيئتكم». وإنَّما فهِمَ هذا من الحديث مَن قلَّ نصيبُه من غذاء الأرواح والقلوب وتأثيرِه في القوَّة وإنعاشها واعتنائها (٢) به فوق تأثير الغذاء الجسمانيِّ. والله الموفِّق.


(١) أخرجه البخاري (٧٢٤١) ومسلم (١١٠٤) من حديث أنس - رضي الله عنه -. ولفظ «لست كهيئتكم» في حديث عائشة وابن عمر - رضي الله عنهم - عند البخاري (١٩٦٤، ١٩٢٢) ومسلم (١١٠٥، ١١٠٢).
(٢) هكذا في جميع النسخ. وفي النسخ المطبوعة: «واغتذائها».