للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الحرارة، فلولا الرُّطوبة لأحرقت البدن وأيبسته وأفسدته. فقوامُ كلِّ واحدةٍ (١) منهما بصاحبتها، وقوامُ البدن بهما جميعًا.

وكلٌّ منهما مادَّةٌ للأخرى. فالحرارة مادَّةٌ للرُّطوبة تحفظها وتمنعها من الفساد والاستحالة. والرُّطوبة مادَّةٌ للحرارة تغذوها وتحملها. ومتى مالت إحداهما إلى الزِّيادة على الأخرى حصل لمزاج البدن الانحرافُ بحسب ذلك. فالحرارة دائمًا تحلِّل الرُّطوبة، فيحتاج البدن إلى ما (٢) يُخْلِف عليه ما حلَّلته الحرارة ضرورةَ بقائه وهو الطَّعام والشَّراب. ومتى زاد على مقدار التَّحلُّل ضعفت الحرارة عن تحليل فضلاته، فاستحالت موادَّ رديَّةً فعاثت في البدن وأفسدت، فحصلت الأمراض المتنوِّعة بحسب تنوُّع موادِّها وقبول الأعضاء واستعدادها.

وهذا كلُّه مستفادٌ من قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: ٣١]. فأرشد عباده إلى إدخال ما يقيم البدن من الطَّعام والشَّراب عوضَ ما تحلَّل منه، وأن يكون بقدر ما ينتفع به البدن في الكمِّيَّة والكيفيَّة، فمتى جاوز ذلك كان إسرافًا. وكلاهما مانعٌ من الصِّحَّة، جالبٌ للمرض، أعني: عدمَ الأكل والشُّرب، أو الإسراف (٣) فيه. فحفظُ الصِّحَّة كلُّه في هاتين الكلمتين الإلهيَّتين.

ولا ريب أنَّ البدن دائمًا في التَّحلُّل والاستخلاف، وكلَّما كثر التَّحلُّل


(١) ف، ز، س، د: «واحد».
(٢) في ث، ل بعدها: «به». وهي زيادة من بعض النساخ.
(٣) ث، ل: «والإسراف».