للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولم نره، فقال: «فتُبَرّئكم يهودُ بأيمان خمسين»، فقالوا: كيف نقبلُ أيمانَ قومٍ كفَّارٍ؟ فوداه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده.

وفي لفظٍ (١): «يقسم خمسون منكم على رجلٍ منهم، فيُدْفَع برُمَّته إليه».

واختلف لفظ الأحاديث الصَّحيحة في محلِّ الدِّية، ففي بعضها أنَّه - صلى الله عليه وسلم - وداه من عنده، وفي بعضها وداه من إبل الصَّدقة (٢).


(١) عند مسلم (١٦٦٩/ ٢)، من حديث سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج - رضي الله عنهما -.
(٢) اختلف في حديث القَسامة اختلافًا كثيرًا، حتى قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (٢٥/ ٣٠٧ - ٣٠٨): «وما أعلم في شيء من الأحكام المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الاضطراب والتضاد ما في هذه القصة، فإن الآثار فيها متضادة متدافعة وهي قصة واحدة! وفي مذاهب العلماء من الاختلاف ... والتنازع ما يضيق بتهذيبه وتلخيصِ وجوهِه كتاب، فضلًا عن أن يُجمع في باب» ا. هـ.
وخلاصة القول: أن الرواة اختلفوا في سند ومتن هذا الحديث:

أما سنده: فقد اختلف فيه على يحيى بن سعيد الأنصاري؛ فأخرجه عبد الرزاق (١٨٢٥٧، ١٨٢٥٨)، ومالك (٢٥٧٤)، ومسلم (١٦٦٩)، وأبو عوانة (٦٠٣٤)، من طرقٍ عنه عن بُشير بن يسار مرسلًا، وأخرجه البخاري (٢٧٠٢، ٣١٧٣،٦١٤٢، ٦١٤٣)، ومسلم (١٦٦٩)، والترمذي (١٤٢٢)، وأبو عوانة (٦٠٣٥، ٦٠٣٦)، والدارقطني في «سننه» (٣١٨٤)، والبيهقي في «الكبرى»: (٨/ ١١٩) من طرق عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة - رضي الله عنه - مرفوعًا، وهو الصواب، وقد توبع يحيى على الوصل؛ فتابعه سعيد بن عبيد عند البخاري (٦٨٩٨) ومسلم (١٦٦٩)، ومحمد بن إسحاق عند أحمد في مسنده (١٦٠٩٦)، وحبيب بن أبي ثابت عند الدارقطني (٣١٨٩)، والطبراني في «المعجم الكبير» (٥٦٢٨)، ومحمد بن قيس الأسدي عند الطبراني في «الأوسط»: (٣/ ١١٨)، وفي بعض هذه الطرق مقال.
= ... وأما متن الحديث فقد اختلف فيه في ثلاثة مواضع: في ثبوت مطالبة الأنصار بالبينة، وفيمن قُدِّم في القسامة، وفيمن ودى الأنصاريَّ.
أما البينة فقد ثبتت عند البخاري (٦٨٩٨)، والنسائي في «المجتبى» (٤٧١٩) من حديث سهل- رضي الله عنه -، وأبي داود في «سننه» (٤٥٢٤)، والبيهقي في «الكبرى»: (١٠/ ١٤٨) من حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه -. ولم تثبت البينة عند البخاري (٢٧٠٢، ٣١٧٣، ٦١٤٢، ٦١٤٣)، ومسلم (١٦٦٩)، والترمذي (١٤٢٢)، وأبي عوانة (٦٠٣٥، ٦٠٣٦)، والدارقطني (٣١٨٤)، والبيهقي في «الكبرى»: (٨/ ١١٩) من حديث سهل بن أبي حثمة - رضي الله عنه -؛ وابن ماجه (٢٦٧٨)، والدارقطني (٣١٨٦)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (٢٧٨٠٩، ٣٦٤٤٠) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وقد رجَّحَ ذِكرَ البينة: النسائيُّ في «الكبرى» (٦٨٩٥)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (١١/ ٥١٧ - ٥٢٦). ورجَّح عدم ذِكرها: الإمام أحمد في «مسائل إسحاق بن منصور الكوسج»: (٧/ ٣٥٨٣)، والخطابي في «معالم السنن»: (٦/ ٣١٤)، وابن عبد البر في «التمهيد»: (٢٣/ ٢٠٩)، والبغوي في «شرح السنة»: (١٠/ ٢١٩)، وابن تيمية في «مجموع الفتاوى»: (٢٠/ ٣٨٨) و (٣٤/ ٢٣٨)، والمصنف هنا، وفي «تهذيب السنن»: (٣/ ١١٤)، و «أعلام الموقعين»: (١/ ٢١٤، ٢٧٦). وينظر في الجمع بين الروايتين: «فتح الباري»: (١٢/ ٢٣٤).
وأما البداءة بالقسامة فقد اختلفت الروايات فيها على ثلاثة أوجه: أولها: تبدئة الأنصار، كما عند البخاري (٣١٧٣، ٦١٤٢، ٦١٤٣)، ومسلم (١٦٦٩)، والترمذي (١٤٢٢)، من حديث سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج - رضي الله عنهما -، وابن ماجه (٢٦٧٨) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأحمد في «مسنده» (١٦٠٩٦) من حديث سهل بن أبي حثمة - رضي الله عنه -. ثانيها: تبدئة اليهود باليمين، ثم الأنصار، وذلك عند أبي يعلى في «مسنده» ــ على ما ذكره الزيلعي في «نصب الراية»: (٤/ ٣٩٠) ــ، والدارقطني (٣١٨٩) كلاهما من حديث سهل بن أبي حثمة، وقد تفرَّد به محمد بن الحسن الأسدي عن حبيب بن أبي ثابت عن بُشير بن يسار عنه، ومحمد

= ... مختلف فيه، ينظر: «تهذيب التهذيب» (٩/ ١٠٣). وله شواهد أخرى مرسلة عن أبي قلابة، وابن المسيب، والحسن، وأبي سلمة، وسليمان بن يسار، وعمر بن عبد العزيز. ثالثها: توجيه اليمين إلى اليهود دون الأنصار، كما عند البخاري (٦٨٩٨) من طريق سعيد بن عبيد عن بُشَيْر بن يسار عن سهل بن أبي حثمة - رضي الله عنه -، وهي شاذة، كما قال أحمد ومسلم والخطابي وابن عبد البر، وكما عند أبي داود (٤٥٢٤) من حديث رافع بن خديج- رضي الله عنه -، وعند الدارقطني في «سننه» (٤٥١٨)، والبيهقي في «الكبرى»: (٨/ ٢١٣) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، والكلبي متهم بالكذب، وأبو صالح ضعيف، وعند البزار في «مسنده» (١٠٢٦) من حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -.
وأصح الأوجه: الأول؛ لاتفاق جُلِّ الثقات عليه، ولم يخالف في ذلك إلا ابن عيينة في روايته عن يحيى بن سعيد، فبدأ بيمين اليهود، والصحيح عنه ــ كما في رواية عامة تلاميذه الأثبات عنه كالحميدي، والشافعي، وأحمد ــ: تبدئة الأنصار، قاله الشافعي في «الأم»: (٧/ ٢٢٤)، وابن عبد البر في «التمهيد»: (٢٣/ ٢٠٠) و «الاستذكار»: (٢٥/ ٣٠٣).
وأما دية الأنصاري فقد اختَلف الرواةُ فيمن تحمَّلها على ثلاثة أوجه:
أولها: أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الثابت في «صحيح البخاري» (٣١٧٣، ٦١٤٢، ٦١٤٣) و «صحيح مسلم» (١٦٦٩) وغيرهما من حديث سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج - رضي الله عنهما -، كما ثبت من حديث عمرو بن شعيب، وابن بُجيد ــ وهو مختلف في صحبته ــ وعمرو بن أبي خزاعة - رضي الله عنه -، وهو ما رجحه المصنف هنا ــ كما سيأتي ــ.
ثانيها: أنهم اليهود، كما عند الدارقطني في «سننه» (٤٥١٨)، والبيهقي في «الكبرى»: (٨/ ٢١٣) من حديث ابن عباس وهو ضعيف جدًّا كما سبق بيانه، والبزار في «مسنده» (١٠٢٦) من حديث عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه -، وقد تفرد به عبد الرحمن بن يامين، وهو ضعيف، كما في «الميزان»: (٢/ ٥٩٧)، و «لسان الميزان»: (٣/ ٤٤١).
وثالثها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم الدية على اليهود، وأعانهم بنصفها، كما عند النسائي في «المجتبى» (٤٧٢٠) و «الكبرى» (٦٨٩٦) من حديث عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وابن عبد البر في «التمهيد»: (٢٤/ ١٥٤) من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب به، وابن لهيعة ضعيف.
وأَرجَحُها أولها؛ وما عداه لا يخلو من مقال، وينظر في الجمع بين الروايات: «شرح مشكل الآثار»: (١١/ ٥٠٣)، و «فتح الباري»: (١٢/ ٢٩٠).