للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الطَّلاق بالعربيَّة، ولم يفهم معناه لم يقع به شيءٌ قطعًا، فإنَّه تكلَّم بما لا يفهم معناه ولا قَصَدَه. وقد دلَّ حديث كعب بن مالكٍ على أنَّ الطَّلاق لا يقع بهذا اللَّفظ وأمثالِه إلا بالنِّيَّة.

والصَّواب أنَّ ذلك جارٍ في سائر الألفاظ صريحِها وكنايتِها، ولا فرقَ بين ألفاظ العتق والطَّلاق، فلو قال: غلامي غلامٌ حرٌّ لا يأتي الفواحش، أو أَمتي أمةٌ حرَّةٌ لا تَبغِي الفجور، ولم يخطُر بباله العتقُ ولا نواه= لم يَعتِقْ بذلك قطعًا. وكذلك لو كانت معه امرأته في طريقٍ فافترقا، فقيل له: أين امرأتك؟ فقال: فارقتُها، أو سَرَّح شعرها وقال: سَرَّحتُها ولم يُرِد طلاقًا= لم تطلق. وكذلك إذا ضربَها الطَّلْقُ (١) وقال لغيره إخبارًا عنها بذلك: إنَّها طالقٌ= لم تطلقْ بذلك. وكذلك إذا كانت المرأة في وثاقٍ فأُطلِقت منه، فقال لها: أنتِ طالقٌ، وأراد من الوثاق (٢).

هذا كلُّه مذهب مالك وأحمد في بعض هذه الصُّور، وبعضها نظير ما نصَّ عليه، ولا يقع الطَّلاق حتَّى ينويه ويأتي بلفظٍ دالٍّ عليه، فلو انفرد أحد الأمرين عن الآخر لم يقع الطَّلاق ولا العتاق. وتقسيم الألفاظ إلى صريحٍ وكنايةٍ وإن كان تقسيمًا صحيحًا في أصل الوضع، لكن يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فليس حكمًا ثابتًا للَّفظ لذاته، فربَّ لفظٍ صريحٍ عند قومٍ كنايةٌ عند آخرين، أو صريحٌ في زمانٍ ومكانٍ كنايةٌ في غير ذلك المكان والزَّمان، والواقع شاهدٌ بذلك، فهذا لفظ «السَّراح» لا يكاد أحدٌ يستعمله في الطَّلاق لا صريحًا ولا كنايةً، فلا يَسُوغُ أن يقال: إنَّ من تكلَّم به


(١) وجع الولادة.
(٢) تقدم مثل هذا في (٣/ ٧٣٥).