للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوفُ القلب على الله، وجمعيَّته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغالُ به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبُّه والإقبالُ عليه في محلِّ هموم القلب وخَطَراته، فيستولي عليه بدلَها، ويصير الهمُّ كلُّه به، والخطراتُ كلُّها بذكره، والفكر في تحصيل مراضيه وما يقرِّب منه، فيصير أُنسُه بالله بدلًا عن أنسه بالخلق، فيُعِدُّه بذلك لأنسه به يومَ الوحشة في القبور (١) حين لا أنيسَ له ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.

ولمَّا كان هذا المقصود إنَّما يتمُّ مع الصَّوم، شُرِع الاعتكاف في أفضل أيَّام الصَّوم، وهو العشر الأخير من رمضان، ولم ينقل عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه اعتكف مفطرًا قطُّ، بل قد قالت عائشة: «لا اعتكافَ إلا بصومٍ» (٢). ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصَّوم، ولا فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مع الصَّوم. فالقول الرَّاجح في الدَّليل الذي عليه جمهور السَّلف: أنَّ الصَّوم شرطٌ في الاعتكاف، وهو الذي كان يرجِّحه شيخ الإسلام ابن تيمية (٣) قدَّس الله روحَه.

وأمَّا الكلام، فإنَّه شرع للأمَّة حبس اللِّسان عن كلِّ ما لا ينفع في الآخرة.

وأمَّا فضول المنام، فإنَّه شرع لهم من قيام اللَّيل ما هو من أفضل السَّهر


(١) ص: «القبر».
(٢) رواه أبو داود (٢٤٧٣) ومن طريقه البيهقي (٤/ ٣٢١)، والأثر صحيح. انظر: «صحيح أبي داود - الأم» (٧/ ٢٣٥).
(٣) مب: «شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية». و «ابن تيمية» ليست في ق، ص، ج. وانظر كلام شيخ الإسلام في هذا الموضوع في «شرح العمدة» (٣/ ٦١١ وما بعدها).