قال البيضاوي: وقد قيل: للآية معنى آخر، وهو أنه لما نزل في المتخلفين ما نزل تسابق المؤمنون إلى النفير، وانقطعوا عن التفقه، فأمروا ان ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد، ويبقى أعقابهم يتفقهون، حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأن الجدال بالحجة هو الأصل، والمقصود من البعثة، فيكون الضمير في لِيَتَفَقَّهُوا، ولِيُنْذِرُوا: للفرق البواقي بعد الطوائف النافرة للغزو، وفي رَجَعُوا: للطوائف النافرة، أي: ولينذروا البواقي من قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصَّلوا أيام غيبتهم من العلوم. هـ. وتقدير الآية على هذا: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فرقة طائفة، وجلس طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم الخارجين للغزو إذا رجعوا إليهم من غزوهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال القشيري: لو اشتغل الكُلُّ بالتَّفَقُّه في الدين لَتَعطَّلَ عليهم المعاش، ولمنعهم الكافر عن درك المطلوب، فجعل ذلك فرضا على الكفاية. ويقال: المسلمون على مراتب: فعوامَّهم كالرعية للمَلِك وكَتَبَةُ الحديث كخزنة المَلِك. وأهل القرآن كحُفَّاظ الدفاتر ونفائس الأموال. والفقهاء بمنزلة الوكلاء إذ الفقيه يوقع الحكم عن الله.
وعلماءُ الأصول كالقُوَّاد وامراء الجيوش. والأولياءُ كأركان الباب. وأربابُ القلوب وأصحابُ الصفاء كخواص المَلِكِ وجُلَسائه. فشغل قوماً بحفظ أركان الشرع، وآخرين بإمضاء الأحكام، وآخرين بالردّ على المخالفين، وآخرين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل قوماً مُفْرَدين لحضور القلب وهم أصحاب الشهود، ليس لهم شُغْلٌ، يراعون مع الله أنفاسَهم، وهم أصحاب الفراغ، لا يستفزُّهم طلَبٌ، ولا يهزُّهم أمر، فهم بالله لله، بمحو ما سوَّى الله، وامَّا الذين يتفقهون في الدين فهم الداعون إلى الله، وإنما يفهم الخلق عن الله بمَنْ كان يَفْهَمُ عن الله. هـ.
قوله: وأما الذين يتفقهون.. الخ، الداعون إلى الله على الحقيقة هم العارفون بالله، وهم أصحاب الشهود، الذين وصفهم قبل، وأما الفقهاء في الدِّين فإنما يدعون إلى أحكام الله، وتعلم دينه دون معرفة ذاته وصفاته فدعواهم ضعيفة التأثير، فلا ينهض على أيديهم ما ينهض على أيدي العارفين.
وقال الورتجبي، في قوله تعالى:(ليتفقهوا في الدين) : قال المرتعش: السياحة والأسفار على ضربين: سياحة لتعلّم احكام الدين وأساس الشريعة، وسياحة لآداب العبودية ورياضة الأنفس، فمن رجع عن سياحة الأحكام قام بلسانه يدعو الخلق إلى ربه، ومن رجع من سياحة الأدب والرياضة قام في الخلق يهديهم لأخلاقه وشمائله.
وسياحة هي سياحة الحق، وهي رؤية أهل الحق والتأدب بآدابهم، فهذا بركته تعم البلاد والعباد. هـ.