للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعد ذلك يحاسب العبدُ نفسَه على ما اشترطه وعاهد عليه، فإن وجد نفسه قد وفَّى بما عاهد عليه الله يحمد الله، وإن وجد نفسه قد حلَ عَقد المشارطة ونقض عهد المراقبة، عاقب النفس عقابًا شديدًا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة، وحافظ على المراقبة، ثم اختبر بالمحاسبة، وهكذا يكون إلى أن يلقى الله تعالى. انتهى كلامه، وهو مقتبس من الإحياء. والله تعالى أعلم.

ثم شرع تعالى فى الكلام على حفظ الأموال، وبدأ بأموال اليتامى، اعتناء بهم لضعفهم، فقال:

[[سورة النساء (٤) : آية ٢]]

وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)

قلت: اليتيم: مَنْ فقدَ أباه، ولا يقال فيه اليتيم عُرفا إلا قبل البلوغ، وهو هنا مجاز، أي: من كان يتيمًا، والحوبُ:

الإثم، ويقال فيه: حوبا، بالضم والفتح، مع الواو والألف، مصدر حاب حوبًا وحوَبا وحابا.

يقول الحقْ جلّ جلاله: وَآتُوا أي: أعطوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ إذا بلغوا، وأُنِس منهم الرشد، وسمَّاهم يتامى بعد البلوغ اتساعًا لقرب عهدهم بالصغر، حثًا على أن يُدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم، قبل أن يزول عنهم هذا الاسم إذا أنِسَ فيهم الرشد، ويدل على هذا ما قيل في سبب نزول الآية، وهو أن رجلآ من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له، فلما بلغ طلب مال أبيه، فمنعه، فنزلت الآية، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله ورسوله، ونعوذ بالله من الحُوب الكبير. وقيل: إن العرب كانت لا تورِّث الصغار مع الكبار، فأُمِرُوا أن يورثوهم، وعلى هذا يكون اليتيم على حقيقته، فعلى الأول: الخطاب للأوصياء، وعلى الثاني: للعرب التي كانت لا تورث الصغار.

ثم قال: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي: لا تتبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم، أو: لا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتُعطوا الخبيث مكانها من أموالكم. كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ مضمومًا إِلى أَمْوالِكُمْ فتنفقونها معًا، مع أن اليتيم لا يأكل كالكبير، إلا إذا كان المنفَق قدَّر أكله، أو لمصلحة. إِنَّهُ أي: الأكل، كانَ حُوباً كَبِيراً أي: إثمًا عظيمًا.

الإشارة: أمر الحق جل جلاله أغنياء القلوب، وهم أكابر الأولياء الراسخون في علم الغيوب، أن يَمنحوا من تعلق بهم من الفقراء والضعفاء، من الغني بالله الذي منحهم الله، حتى لا يلتفتوا إلى سواه، وأن يَقبلوا كل من أتى إليهم من العباد، سواء كان من أهل المحبة والوداد، أو من أهل المخالفة والعناد، ولا يتبدلوا الخبيث بالطيب، بحيث

<<  <  ج: ص:  >  >>