الإشارة: إنَّ المتقين ما سوى الله في جنات المعارف عاجلاً، وجنات الزخارف والمعارف آجلاً، ونعيم المشاهدات والمكاشفات والمناجاة، فاكهين، معجبين، متلذذين بما آتاهم ربهم من أصناف ألطافه، وتقريبه، ووقاهم ربهم عذاب الجحيم، أي: نار شهوة نفوسهم، فبردت عنهم، وسَلِموا منها، كُلوا من طعام المشاهدات، واشربوا من أمداد الزيادات والترقيات، هنيئاً بما كنتم تعملون من المجاهدات والمكابدات، متكئين على سُرر المقامات، والدرجات، مصفوفة في منازل العبودية، وزوجناهم بحُورٍ عين من أبكار الحقائق، وثيبات العلوم، والذين آمنوا بهذه الطريق وسلكوها، واتبعتهم ذريتهم ومَنْ تعلق بهم من طلاب الحق، ألحقنا بهم ذريتهم ومَنْ تعلق بهم، وإن لم يبلغوا صفاء مشربهم من الوصال والاتصال، فيكونون معهم في الدرجة، مع تفاوتهم في نعيم المشاهدة، وما ألتناهم من عملهم من شيء، بل ألحقناهم بهم فضلاً وكرماً، مع توفُّر ثواب عمل الملحق بهم. كل امرئ بما كسب رهين، لا يزيد نعيم روحه على سعيه في الدنيا ومجاهدته، وإن تساوى في الدرجة مع غيره. وأمددناهم بفاكهةٍ من حلاوة المعاملة، ولحم مما يشتهون من لذائذ المشاهدة، يتنازعون فيها في جنة المعارف، كأس خمرة المحبةً والفناء، فيفنون عن وجودهم في شهود محبوبهم. يتناولون ذلك من أشياخهم واحداً بعد واحد، وقد يجتمعون في كأس واحدة، لا لغو فيها، أي: لا حديث للنفس في حال شربها، بل الهم كله مجموع فيها، كما قال القائل:
وإذا جلست إلى المدام وشربه ... فاجعل حديثك كله في الكأس
فالخمرة التي يشوبها شيء من حديث النفْس ليست بصافية من الأكدار. ولا تأثيم بنزوع الروح إلى طبع النفس، إذا نزلتَ إلى سماء الحقوق، أو أرض الحظوظ، بل تكون في ذلك بالله، ومن الله، وإلى الله، تنزل بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، جعلنا الله من ذلك القبيل بمنّه وكرمه.
وقال الورتجبي: يَتَنازَعُونَ ... الآية، وصفهم الله في شربهم كاسات شراب الوصلة بالمسارعة والشوق إلى مزيد القُربة، ثم وصف شرابَهم أنه يورثهم التمكين والاستقامة في السُكْر، لا يزول حالهم إلى الشطح والعربدة، وما يتكلم به سكارى المعرفة في الدنيا عند الخلق، ولا يشابِهُ حالُ أهل الحضرة حالَ أهل الدنيا من جميع المعاني. هـ.