يقول الحق جلّ جلاله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
، فإذا لم يتيسر لكم إقامةُ دينِكُمْ في بلد، فاخرجوا منها إلى أرض يتهيأ لكم فيها استقامة دينكم، والبقاع تتفاوت في ذلك تفاوتاً كبيراً، والناس مختلفون، فأهل الشرائع يطلبون البقاع التي يتيسر لهم فيها استقامة ظواهرهم، كالمدن والقرى الكبار، التي يكثر فيها العلم وأهله. وأهل الحقائق من الصوفية يطلبون البقاع التي تسلم فيها قلوبهم من العلائق والشواغل، أينما وجدوها عمروها، إن تهيأ لهم الاجتماع على ربهم. وعن سهل رضي الله عنه: إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض، فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من فرَّ بدينه من أرض، إلى أرض، وإن كان شبرا، استَوجَبَ الجنة، وكان رفيقَ إبراهيم ومحمد عليهما السلام»«١» .
فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
أي: فخصوني بالعبادة. وإياي: مفعول لمحذوف، ومفعول «اعبدوني» : الياء المحذوفة، أي: فاعبدوا إياي، فاعبدوني. والفاء: جواب الشرط، محذوف، إذ المعنى: إن أرضي واسعة، فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض، فاخلصوا لي في غيرها.
ثم شجع المهاجرين بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ، أي: واجدة مرارته وكربه لأنها إذا تيقنت بالموت سهل عليها مفارقة وطنها. ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ بالموت، فتجازَوْن على ما أسلفتم. ومن عَلِمَ أن هذا عاقبته ينبغي أن يجتهد في الاستعداد له، فإن لم يتهيأ في أرض فليهاجر منها.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لنُنزلنهم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً علالي، عالية، وقرأ حمزة والكسائي: لنثوينهم لنقيمنهم، من الثَّوَى، وهو الإقامة، وثوى: غَيْرُ متعد، فإذا تعدى بزيادة الهمزة، لم
(١) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف: أخرجه الثعلبي من مرسل الحسن. انظر الكافي الشاف (٣/ ٤٦١) .