للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا كله إنما يكون في البدايات، كما قال الشاذلى رضى الله عنه: (اللهم إنَّ القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا) .. فإذا تمت أنوارهم وتطهرت من البقايا أسرارهم، حكَّمهم في العباد، وأذلهم لهم، فيكون العبد المجتبى سيفاً من سيوف الله، ينتصر الله به لنفسه كما نبه على ذلك في لطائف المنن. وذلك من أسرار عدم مشروعية الجهاد من أول الإسلام تشريعًا لما ذكرنا، وتحذيرًا من الانتصار للنفس، وعدم تمحض النصرة للحق. وعند الرسوخ في اليقين، والأمن من مزاحمة الصدق غيره، وقع الإذن في الجهاد، هذا بالنسبة إلى الصحابة الكرام، وأما النبي صلى الله عليه وسلّم فكامل من أول نشأته، وإنما ذلك تشريع لغيره، وترفيع لرتبته. والله تعالى أعلم.

ولما طلبوا من يحكم بينهم وبينه صلّى الله عليه وسلّم، أنزل الله:

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)

قلت: (غير) : مفعول، و (حَكَمًا) : حال، وهو أبلغ من حاكم، ولذلك لا يوصف به غير العادل، و (صدقًا وعدلاً) : تمييز، أو حال، أو مفعول له.

يقول الحق جلّ جلاله: قل يا محمد: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أطلبُ حَكَماً يحكم بيني وبينكم، ويفصل المحق مِنَّا من المبطل، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ أي: القرآن المعجز، مُفَصَّلًا مُبينًا، قد بيّن فيه الحق من الباطل، بحيث انتفى به الالتباس، فهو الحاكم بيني وبينكم، فلا أطلب حاكمًا غيره، وفيه تنبيه على أن القرآن بإعجازه مُغنٍ عن سائر الآيات. وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ كأحبار اليهود، يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لتصديقه ما عندهم، وموافقته له في كثير من الأخبار، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ في أنهم يعلمون ذلك، أو في أنه منزل من ربك، والمراد غيره- عليه الصلاة والسلام- ممن يطرقه ارتياب، والمعنى: أن الأدلة تعاضدت على صحته، فلا ينبغي لأحد أن يمتري فيه.

وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ آيات القرآن، بلغت الغاية في التمام والكمال، صِدْقاً وَعَدْلًا أي: من جهة الصدق والعدل، صدقًا في الأخبار والمواعيد، وعدلاً في الأقضية والأحكام، فلا أصدَق منها فيما أخبرت، ولا أعدل منها فيما حكمت، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أي: لا أحد يقدر أن يبدل منها شيئًا بما هو أصدق وأعدل، ولا أن يحرف شيئًا منها، كما فُعل بالتوراة، فهو ضمان من الحق لحفظ القرآن، كما قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «١»


(١) الآية ٩ من سورة الحِجر.

<<  <  ج: ص:  >  >>