يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ ذَرَأْنا خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ كتبنا عليهم الشقاء في سابق الأزل، فهم من قبضة أهل النار، كما قال:«هؤلاء إلى الجنَّةِ ولا أُبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي»«١» .
ثم ذكر علامتهم فقال: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها المواعظ والتذكير للأكنة التي جعلت عليها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها دلائل وحدانيتنا وكمال قدرتنا، فلا ينظرون بها نظر اعتبار، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها الآيات والمواعظ، سماع تأمل وتدبر، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ في عدم التفقه والاستبصار، أو في أن هممهم ومشاعرهم متوجهة إلى أسباب التعيش، مقصورة عليها، فهممهم في بطونهم وفروجهم، بَلْ هُمْ أَضَلُّ من الأنعام، لأنها تطلب منافعها وتهرب من مضارها، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة، وأيضًا: الأنعام رُفع عنها التكليف فلا تعذب، بخلاف الكافر، وأيضًا: البهائم تقبل الرياضة والتأديب لِمَا يراد بها، والكافر عاص على الدوام، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة المنهمكون فيها.
الإشارة: النار على قسمين: حسية ومعنوية، كما أن الجنة كذلك، فالنار الحسية لتعذيب الأشباح، والنار المعنوية لتعذيب الأرواح، والجنة الحسية لنعيم الأشباح، والمعنوية لنعيم الأرواح. النار الحسية معلومة. والنار المعنوية هي نار القطيعة وغم الحجاب، وأهلها هم أهل الغفلة، وهم كثير من الجن والإنس، ليس لهم قلوب تجول في معاني التوحيد، وليس لهم أعين تنظر بعين الاعتبار، وليس لهم آذان تسمع المواعظ والتذكار، إن هم إلا كالأنعام، غير أن الله تعالى تفضل عليهم برسم الإسلام. والجنة الحسية هي جنة الزخارف، والجنة المعنوية هي جنة المعارف، وأعدها الله لقلوب تجول في الأنوار والأسرار، ولأعين تنظر بعين الأعتبار والاستبصار، حتى تشاهد أنوار الواحد القهار، ولآذان تسمع المواعظ والتذكار، وتعي ما تسمع من الحكم والأسرار، وبالله التوفيق.
(١) أخرج أحمد في المسند (٥/ ٢٣٩) عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فقبض بيديه قبضتين فقال: «هذه فى الجنة ولا أبالى وهذه فى النار ولا أبالي» .