قلت: الهمزة للإنكار، والفاء للعطف على محذوف، أي: أَفعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار فلم يتدبروا القرآن، و «أم» : منقطعة، فيها معنى الإضراب والتوبيخ في الجميع.
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ يتدبروا القرآن ليعرفوا، بما فيه من إعجاز النظم وصحة المدلول، والإخبار عن المغيبات الماضية والمستقبلة، أنه الحق، فيؤمنوا به، ويُذعنوا لمن جاء به، أَمْ جاءَهُمْ بل أَجاءهم من الكتاب ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، حتى استبعدوه واستبدعوه، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ أي: بل ألم يعرفوه- عليه الصلاة والسلام- بالأمانة والصدق، وحسن الأخلاق، وكمال العلم من غير تعلُّم ولا مدارسة، وغير ذلك مما حازه من الكمالات اللائقة بالأنبياء قبله، بل عرفوه بذلك فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ بغياً وحسداً.
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ جنون، وليس كذلك لأنهم يعلمون أنه أرجحهم عقلاً، وأثقبهم ذهناً، وأتقنهم رأياً، وأوفرهم رزانة، ولقد شهد له بذلك كل من رآه من الأعداء والأحباب، بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ أي: ليس الأمر كما زعموه فى حق الرسول- عليه الصلاة السلام-، وما جاء به من القرآن، بل جاءهم بالحق الأبلج والصراط المستقيم، وبما خالف أهواءهم، من التوحيد الخالص والدين القيم، ولم يجدوا له مرداً ولا مدفعاً، فلذلك نسبوه إلى الجنون، وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ من حيث هو حق، لا لهذا بعينه، فلذلك أظهر في موضع الإضمار، كارِهُونَ ٠ لِمَا في جبلتهم من الزيغ والانحراف المناسب للباطل ولذلك كرهوا هذا الحق الأبلج، وزاغوا عن الطريق الأبهج، وفي التعبير بالأكثر دليل على أن أقلهم ما كان كارهاً للحق، بل كان تاركاً للإيمان به، أنفةً واستنكافاً من توبيخ قومه، أو لقلة فطنته وعدم تفكره، كأبي طالب وأضرابه. قال ابو السعود: وأنت خبير بأن التعرض لعدم كراهة بعضهم للحق، مع اتفاق الكل على الكفر به، مما لا يُساعده المقام أصلاً. هـ. فحمل الأكثر على الكل.