رُوِي أنهم كانوا يُعينون شيئًا من حرث أو نتاج إلى الله، فيصرفونه إلى الضيفان والمساكين، وشيئًا منها إلى آلهتهم، فينفقونه على سدنتهم- أي: خدَّامهم، والقيام بأصنامهم، ويذبحون عندها، ثم إذا رأوا ما عينوا لله أزكى وأكثر، بدلوه لآلهتهم وقالوا: الله غني عنه، وإذا رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حبًا لآلهتهم، وإذا هبت ريح فحملت شيئًا من الذي لله إلى الذي للأصنام أقروه، وإن حملت شيئًا من الذي للأصنام إلى الذي لله ردوه، وإذا أصابتهم سَنَةٌ، أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم، تعظيمًا لها.
وفي قوله: مِمَّا ذَرَأَ: تنبيه على فرط جهالتهم، فإنهم أشركوا الخالق في خلقه، جمادًا لا يقدر على شيء، ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له، وفي قوله: بِزَعْمِهِمْ: تنبيه على أن ذلك مما اخترعوه، ولم يأمرهم الله تعالى به. ساءَ أي: قبح، ما يَحْكُمُونَ حكمهم هذا الذي اخترعوه من عند أنفسهم.
الإشارة: مما ينخرط في سلك الآية، وتجر ذيلها عليه، ما يفعله بعض الناس من التساهل في حقوق الله الواجبة، والمسارعة إلى حقوق الناس التي ليست بواجبة عليه، فترى بعض العوام يقدمون مد أبي العباس السبتي، ويتساهل في الزكاة، وترى بعض الناس يُسارع إلى إطعام الطعام وقرى الأضياف، وهو لا يفي زكاته. وبعضهم يجعلون للصالحين شيئًا من أموالهم لتصلح وتنمو ويعتني بشأنها، وقد لا يعتني بزكاته ولا يخرجها، وهذا كله شعبة من فعل أهل الشرك، وعلامة اتباع الهوى. وبالله التوفيق.
قلت: قرأ الجمهور: زَيَّنَ بالبناء للفاعل ونصب قتل، على أنه مفعول به، وخفض (أولادهم) بالإضافة، ورفع (شركاؤهم) فاعل (زين) ، فالشركاء على هذه القراءة هم الذين زينوا القتل، وقرأ ابن عامر: بضم الزاي على البناء للمفعول، ورفع «قتل» على النيابة عن الفاعل، ونصب «أولادهم» على أنه مفعول بقتل، وخفض «شركائهم» بالإضافة إلى قتل، إضافة المصدر إلى فاعله، أي: زُين لهم أن يقتل شركاؤهم أولادهم، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بأولادهم، وهو معمول للمصدر، وهو جائز في العربية، قال ابن مالك في الألفية:
فَصلَ مُضَافٍ شِبهِ فِعلٍ مَا نَصب ... مَفعولاً أو ظَرفًا أجِز، ولم يُعب
وهذا من فصل المفعول، فهو جائز في السعة خلافًا للزمخشري ومن تبعه، وقد شنَّع عليه الشاطبي في حرز الأماني.