الإشارة: إنّا نحن نُحيي القلوب الميتة بالغفلة والجهل، فنحييها بالعلم والمعرفة، ونكتب ما قدّموا من العلوم، والأسرار والمعارف، وآثارهم، أي: الأنوار المتعدية إلى الغير، ممن اقتبس منهم وأخذ عنهم. قال القشيري: نُحيي قلوباً ماتت بالقسوة، بما نُمطر عليها من صنوف الإقبال والزلفة، ونكتب ما قدموا وَآثارَهُمْ خطاهم إلى المساجد، ووقوفهم على بساط المناجاة معنا، وما ترقرقَ من دموعهم على عَرَصات خدودهم، وتَصَاعُدَ أنفاسهم. هـ.
ثم ضرب مثلاً لقريش فى تكذيبهم، وفيه تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم، فقال:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١٣ الى ١٩]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)
قلت: «اضرب» : يكون بمعنى: اجعل، فيتعدى إلى مفعولين، و «مَثَلاً» : مفعول أول، وأَصْحابَ: مفعول ثان، أو: بمعنى «مثل» ، من قولهم: عندي من هذا الضرب كذا، أي: من هذا المثال. و «أصحاب» : بدل من «مَثَلاً» ، و «إذ» :
بدل من «أصحاب» . و «أَئِن ذُكِّرتُم» : شرط، حُذف جوابه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاضْرِبْ لَهُمْ أي: لقريش مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أي: واضرب لهم مثل أصحاب القرية «أنطاكية» أي: اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية، إِذْ جاءَهَا أي: حين جاءها الْمُرْسَلُونَ رُسل عيسى عليه السلام «١» ، بعثهم دعاةً إلى الحق، إلى أهل أنطاكية. وكانوا عبدة أوثان.
إِذْ أَرْسَلْنا: بدل من «إذ» الأولى، أي: إذ بعثنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ، بعثهما عيسى عليه السلام، وهما يوحنا وبولس، أو: صادقاً وصدوقاً، أو غيرهما. فلما قربا إلى المدينة، رأيا شيخاً يرعى غنيمات له، وهو حبيب النجار، فسأل عن حالهما، فقالا: نحن رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن؟ فقال: أمعكما آية؟
(١) هذا قول قتادة، أخرجه الطبري (٢٢/ ١٥٥) والظاهر من (أرسلنا) أنهم أنبياء، أرسلهم الله، ويدلّ عليه: قول المرسل إليهم: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وهذه المحاورة لا تكون إلاَّ مع من أرسله الله، ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح- عليه السّلام. راجع تفسير ابن كثير (٣/ ٥٦٩) والبحر المحيط (٧/ ٣١٣) .