للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إشراق أسرار الذات على السريرة، فيصير الدليل محل العيان، فتَبتَهج السريرة بمخامرة الذوق والوجدان، وأول الخشوع: تدبر القلب فيما يقول، وحضوره عند ما يفعل، وغايته: غيبته عن فعله في شهود معبوده، فينمحي وجود العبد عند تجلي أنوار الرب، فتكون صلاته شكراً لا قهراً، كما قال سيد العارفين صلى الله عليه وسلم: «أفلا أكون عبداً شكوراً» .

ولا تتحقق هذه المقامات إلا بالإعراض عن اللغو، وهو كل ما يشغل عن الله، وتزكية النفوس ببذلها في مرضاة الله، وإمساك الجوارح عن محارم الله، وحفظ الأنفاس والساعات، التي هي أمانات عند العبد من الله.

قال في القوت: قال بعض العارفين: إن لله- عز وجل- إلى عبده سرّيْن يُسِرهما إليه، يُوجده ذلك بإلهام يُلهَمهُ، أحدهما: إذا وُلِد وخرج من بطن أمه، يقول له: عبدي، قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً، واستودعتك عُمرك، ائتمنتك عليه، فانظر كيف تحفظ الأمانة، وانظر كيف تلقاني كما أخرجتك، وسرّ عند خروج روحه، يقول له: عبدي، ماذا صنعت في أمانتي عندك؟ هل حفظتها حتى تلقاني على العهد والرعاية، فالقاك بالوفاء والجزاء؟

أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب؟ فهذا داخل في قوله عز وجل: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) ، وفى قوله عز وجل: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «١» ، فعُمْر العبد أمانة عنده، إن حفظه فقد أدى الأمانة، وإن ضيَّعه فقد خان، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ «٢» . هـ.

ثم ذكر ابتداء خلق الإنسان وأطواره وانتهاء أمره، فقال:

[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٢ الى ١٦]

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)

قلت: «خلق» : إن كان بمعنى اخترع وأحدث تعدى إلى واحد، وإن كان بمعنى صَيَّر تعدى إلى مفعولين، ومنه: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) ، وما بعده.

يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ جنس الإنسان، أو آدم، مِنْ سُلالَةٍ «من» :

للابتداء، والسلالة: الخُلاصة لأنها تسل من بين الكدر، وهو ما سُلَّ من الشيء واستخرج منه، فإن (فُعالة) اسم لما


(١) من الآية ٤٠ من سورة البقرة.
(٢) من الآية ٥٨ من سورة الأنفال.

<<  <  ج: ص:  >  >>