وقوله تعالى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ، اعلم أن لطفه سبحانه بعباده لا ينحصر ولا ينفك عنه مخلوق، من ظن انفكاك لطف الله عن قدره فذلك لقصور نظره، فمِن لطفه سبحانه بخلقه: أنه أعطاهم فوق الكفاية، وكلَّفهم دون الطاقة. ومِن لطفه سبحانه: تسهيله الأرزاق، وتيسير الارتفاق، فلو تفكّر الإنسان في اللقمة التي توضع بين يديه، ماذا عمل فيها من العوالم العلوية والسفلية لتحقق بغاية عجزه، وتيقن بوجود لطفه، وكذا ما يحتاج إليه من مشروب، وملبوس، ومطعوم. ومن لطفه سبحانه: توفيق الطاعات، وتسهيل العبادات، وتيسير الموافقات. ومن لطفه سبحانه: حفظ التوحيد في القلوب، واطلاعها على مكاشفة الغيوب، وصيانة العقائد عن الارتياب، وسلامة القلوب عن الاضطراب. ومن لطفه سبحانه: إبهام العاقبة لئلا يتكلوا أو ييأسوا. ومن لطفه سبحانه بالعبد: إخفاء أجله عليه لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله. ومن لطفه سبحانه بخواصه: ستر عيوبهم، ومحو ذنوبهم، حتى وصلهم بما منه إليهم، لا بما منهم إليه، فكشف لهم عن أسرار ذاته، وأنوار صفاته، فشاهدوه جهراً، وعبدوه شكراً.
وقوله تعالى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ إما رزق الأرواح، أو رزق الأشباح، وإلى هذا القسمين أشار قوله:
يقول الحق جلّ جلاله: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ، سُمِّي ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة المستقبلة حرثاً، مجازاً لأن الحرث: إلقاء البذر في الأرض لننظر نتاجه، فأطلقه على العمل، لجامع حصول النتاج، أي: مَن كان يريد بأعماله ثواب الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ نضاعف له ثوابه، الواحدة بعشر إلى سبعمائة فما فوقها، أو: نَزِدْ له في توفيقه وإعانته، وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه. وَمَنْ كانَ يُرِيدُ بأعماله حَرْثَ الدُّنْيا وهو متاعها وطيباتها نُؤْتِهِ مِنْها أي: شيئاً منها، حسبما قسمناه له، لا ما يريده ويبتغيه، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ إذا كانت همته مقصورة على الدنيا. ولم يذكر في عامل الآخرة أن رزقه المقسوم يصل إليه، للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده، من زكاء أعماله، وفوزه في المآب لأن ما يُعطى في الآخرة يستحقر أن يُذكر معه غيره من الدنيا.
الإشارة: قد مرّ مرارا ذم الدنيا وصرف الهمة إليها، وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض خطبه: «أيها الناس، أَقبِلوا على ما كلفتموه من صالح آخرتكم، وأَعْرِضوا عما ضُمِنَ لكم من أمر