ثم صرفه عن نفسه إلى غيره، يصدق عليه قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وكان من شر الدواب التي أشار إليهم تعالى بقوله:
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ وهو كل من يدب على وجه الأرض، الصُّمُّ عن سماع الحق، الْبُكْمُ عن النطق به، الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ الحق ولا يعرفونه، عدهم من البهائم ثم جعلهم شرها لإبطالهم ما مُيزوا به وفُضلوا لأجله، وهو استعمال العقل فيما ينفعهم من التفكر والاعتبار. قال ابن قتيبة: نزلت هذه الآية في بني عبد الدار، فإنهم جدوا في القتال مع المشركين، يعني يوم بدر، وحكمها عام.
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً سعادة كتبت لهم، أو انتفاعاً بالآيات، لَأَسْمَعَهُمْ سماع تَفَهُّم، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ، مع كونه قد علم الأخير فيهم، لَتَوَلَّوْا عنه، ولم ينتفعوا به، وارتدوا بعد التصديق والقبول، وَهُمْ مُعْرِضُونَ عنه، لعنادهم، وقيل: إنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلّم أن يُحيي لهم قُصي بن كلاب، ويشهد له بالرسالة، حتى يسمعوا منه ذلك، فأنزل الله: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ كلامه بعد إحيائه، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ، لسبق الشقاوة في حقهم.
الإشارة: اعلم أن الأمر الذي شرف به الآدمي وفضل غيره هو معرفة خالقه، واستعمال العقل فيما يقربه إليه، وسماع الوعظ الذي يزجره عن غيه، فإذا فقد هذا كان كالبهائم أو أضلّ، ولله در ابن البنا، حيث يقول في مباحثه:
وَاعْلَمْ أَنَّ عُصْبَةَ الجُهَّالِ ... بَهَائِمٌ في صُوَرِ الرِّجَال
واعلم أيضاً أن بعض القلوب لا تقبل علم الحقائق، فأشغلها بعلم الشرائع، ولو علم فيها خيراً لأسمعها تلك الأسرار، ولو أسمعها، مع علمه بعدم قبولها، لتولت عنها وأعرضت لضيق صدرها وعدم التفرغ لها.