الإشارة: في هذه الآية ميزان صحيح توزن به الأعمال والأحوال ويتميز به المدعون من الأبطال، فكل عمل يهدمه الموت فهو مدخول، وكل حال يهزمه الموت فهو معلول، وكل من فرّ من الموت فهو في دعواه المحبة كذاب، فمن ادعى الخصوصية على الناس يختبر بهذه الآية.
والناس في حب البقاء في الدنيا على أربعة أقسام:
رجل أحب البقاء في الدنيا لاغتنام لَذَّاته ونيل شهواته، قد طرح أخراه، وأكبَّ على دنياه، واتخذ إلهه هواه، فأصمه ذلك وأعماه، إن ذُكر له الموت فرّ عنه وشرد، وإن وعِظَ أنِف وعَنَدَ، عمره ينقص، وحرصه يزيد، وجسمه يبلى، وأمله جديد، وحتفه قريب، ومطلبه بعيد، فهذا إن لم تكن له عناية أزلية، وسابقة أولية فيمسك عليه الإيمان، ويختم له بالإسلام، وإلا فقد هلك.
ورجل قد أزيل عن عينه قذاها، وأبصر نفسه وهواها، وزجرها ونهاها، قد شمر ليتلافى ما فات، ونظر فيما هو آت، وتأهب لحلول الممات، والانتقال إلى محلة الأموات، ومع هذا فإنه يكره الموت أن يشاهد وقائعه، أو يرى طلائعه، وليس يكره الموت لذاته، ولا لأنه هَادِمْ لَذَّاتِهِ، لكنه يخاف أن يقطعه عن الاستعداد ليوم المعاد، ويكره أن تطوى صحيفةِ عَمَلِهِ قبل بلوغ أمله، وأن يبادر بأجله قبل صلاح خلله، فهو يريد البقاء في هذه الدار لقضاء هذه الأوطار، فهذا ما أفضل حياته: وأطيب مماته! لا يدخل تحت قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كره اللهُ لِقَاءَه» .
ورجل آخر قد عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وشهد ما شهد من كمال الربوبية، وجمال حضرة الألوهية، فملأت عينه وقلبه، وأطاشت عقله ولبّه، فهو يحن إلى ذلك المشهد، ويستعجل إنجاز ذلك الموعد، قد علم أن الحياة الدنيوية حجابٌ بينه وبين محبوبة، وسترٌ مُسدل بينه وبين مطلوبه، فهذا من المحبين العشاق، قد حنّ إلى الوصال والتلاق، أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، فما أحسن حياته ولقاءه! ورجل آخر قد شهد ما شاهد ذلك، وربما زاد على ما هنالك، لكنه فوّض الأمر إلى خالقه، وسلّم الأمر لبارئه، فلم يرض إلا ما رضي له، ولم يرد إلا ما أريد به، وما اختار إلا ما حكم به فيه، إن أبقاه في هذه الدار أبقاه، وإن أخذه فهو بغيته ومناه، فهذا من العارفين المقربين. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. آمين.