وأما: هَلْ حدث هذا الكفر بعد إيمان سابق، أو لم يزل كافراً منذ كان؟ فهذا لا يحصله إلا نص قرآن، أو خبر متواتر، أو إجماع أمة، وهي المحصلة للعلم، وهذه الثلاثة مفقودة هنا. هـ. قلت: والظاهر أنَّ كفره لم يظهر إلا بعد الأمر بالسجود لآدم، وإنما سبق به العلم القديم، وكان قد أظهر الإيمان والعبادة والله تعالى أعلم.
وقوله: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ لأحملنهم على الغواية أجمعين، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصتهم لطاعتك، وطهرتهم من الشهوات، فلا يعمل فيهم كيدي. ومن قرأ بالكسر فمعناه: الذين أخلصوا دينهم لله، وتحصنوا بالإخلاص في سائر أعمالهم. قالَ تعالى: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، الإشارة إلى نجاة المخلصين، أو إلى العبادة والإخلاص، أي: هذا الطريق الذي سلكه أهل الإخلاص في عبوديتهم هو طريق وارد عليَّ، وموصل إلى جواري، لا سبيل لك على أهله لأنه مستقيم لا عوج فيه. وقيل: الإشارة إلى انقسام الناس إلى غاوٍ ومخلص، أي: هذا أمر إليَّ مصيره، والنظر فيه لي، عليَّ أن أراعيه وأبينه، مستقيم لا انحراف فيه. وقرأ الضحاك ومجاهد والنخعي، وغيرهم:«عَلِيٌّ» بكسر اللام والتنوين، من العلو والشرف، والإشارة حينئذٍ إلى الإخلاص، أي: هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت بإغوائك أهلَه يا إبليس.
الإشارة: إنما يصعب الخضوع للجنس أو لمن دونه، في حق من يغلب حسه على معناه، وفرقُه على جمعه، وأما من غلب معناه على حسه، حتى رأى الأشياء الحسية أواني حاملة للمعاني، أي: لمعاني أسرار الربوبية، بل رآها أنواراً بارزة من بحر الجبروت، لم يصعب عليه الخضوع لشيء من الأشياء لأنه يراها قائمة بالله، ولا وجود لها مع الله، فلا يخضع حينئذٍ إلا لله، فالملائكة- عليهم السلام- نفذت بصيرتهم، فرأوا آدم عليه السلام قبلة للحضرة القدسية، فغلب عليهم شهود المعاني دون الوقوف مع الأواني، فخضعوا لآدم صورةً، ولله حقيقة. وإبليس وقف مع الحس، وحجب بالفرق عن الجمع، فلم ير إلا حس آدم دون معناه، فامتنع عن السجود. وفي الحِكَم العطائية:«فمن رأى الكون، ولم يشهد الحق فيه، أو عنده، أو قبله، أو بعده، أو معه، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار» . ولهذا المعنى صعب الخضوع للأشباح لغلبة الفرق على الناس، إلا مَن سبقت له العناية، فإنه يخضع مع الفرق محبة لله، حتى يفتح الله عليه في مقام الجمع، فيخضع لله وحده. والتوفيق لهذا، والسير على منهاجه- أعني الخضوع لمن يوصل إلى الله- هو الصراط الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله:(هذا صراط عَلَيَّ مستقيم) . والله تعالى أعلم.