الإشارة: مَن سبق له الطرد والإبعاد لا تنفعه خلطة أهل المحبة والوداد، بل يخرج من عندهم كما دخل عليهم، لا ينفع فيه وعظ ولا تذكير، ولا ينجح فيه زاجر ولا نذير، وأما مَن سبقت له العناية فلا يخرج من عندهم إلا مصحوبًا بالهداية والرعاية، إذا كان في أسفل سافلين أصبح في أعلى عليين لأنهم قوم لا يشقى جليسهم. والله تعالى أعلم.
قلت:(لولا) : إذا دخلت على الماضي أفادت التوبيخ، وإذا دخلت على المستقبل أفادت التحضيض.
يقول الحق جلّ جلاله: وَتَرى يا محمد، أو يا مَن تصح منه الرؤية كَثِيراً من اليهود يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ أي: في الذنوب والمعاصي المتعلقة بهم في أنفسهم، وَالْعُدْوانِ المتعلقة بغيرهم، كالتعدي على أموال الغير وأعراضهم وأبدانهم، وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ: الحرام كالرشا والربا وغير ذلك، لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي:
قبح عملهم بذلك، وتناهى في القبح.
لَوْلا يَنْهاهُمُ أي: هلا ينهاهم الرَّبَّانِيُّونَ أي: عُبّادُهم ورهبانهم، (والأحبار) أي: علماؤهم وأساقفتهم، عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ أي: الكذب، وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ: الحرام، لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ من السكوت عنهم، وعدم الإنكار عليهم، عبّر أولاً بيعلمون وثانيًا بيصنعون لأن الصنع أبلغ، ولأن الصنع عمل بعد تدريب وتدقيق وتحري أجادته وجودته، بخلاف العمل، ولا شك أن ترك التغيير والسكوت على المعاصي من العلماء وأولى الأمر أقبح وأشنع من مواقعة المعاصي، فكان جديرًا بأبلغ الذم، وأيضًا: ترك التغيير لا يخلو من تصنع، فناسب التعبير بيصنعون، وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم:«مَا مِن رَجُل يُجَاورُ قَومًا فَيَعمَلُ بالمَعَاصِي بَين أظْهُرِهم إلاَّ أوشَكَ اللهُ تَعَالَى أن يَعُمَّهُمُ مِنه بِعِقَاب» . وقد قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «١» ، فالوبال الذي يترتب على ترك الحسبة أعظم من الوبال الذي يترتب على المعصية، فكان التوبيخ على ترك الحسبة أعظم.