فمن قصَده- أي قصد الحق تعالى- ثم أدركه الأجلُ قبل وصوله، فلا ينزل إلا بساحات وصله، ولا يكون محط رفقته إلا مكان قربه. هـ. وفي بعض الآثار: الهجرة هجرتان: هجرة صُغرى، وهجرة كبرى، فالصغرى: انتقال الأجسام مِن وطنٍ غير مرضي إلى وطن مرضي، والكبرى: انتقال النفوس من مألوفاتها وحظوظها إلى معرفة ربها وحقوقها. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، أي: سافرتم للجهاد أو غيره من السفر المباح، أو المطلوب، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ الرباعية إلى ركعتين، ونفيُ الجُناح يقتضي أنها رُخصة، وبه قال الشافعي، ويؤيده أنه- عليه الصلاة والسلام- أتمّ في السفر، وأن عائشة- رضى الله عنها- قالت:
يا رسول الله قَصَرْتَ وأتممْتُ، وصُمْتُ وأفطرتِ؟ فقال:«أحسنت «١» يا عائشة» . وأوجبه أبو حنيفة لقول عمر رضي الله عنه:(السفر ركعتان تمام غير قصر، على لسان نبيكم) . ولقول عائشة:(أول ما فرضت الصلاة ركعتان، فأقرت صلاة السفر، وزيدت في الحضر) .
وقال مالك رضي الله عنه: القصر سنة لكونه- عليه الصلاة والسلام- دام عليه في كل سفر، ولم يتُم إلا مرةً لبيان الجواز.
وقوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ظاهره أن الخوف شرط في القصر، وبه قالت عائشة وعثمان- رضى الله عنهما-، والجمهور على عدم شرطه، وإنما ذكره الحق- تعالى- لكونه غالبًا في ذلك الوقت، فلا يعتبر مفهومه، أو يؤخذ القصر في الأمن من السُّنة. ويؤيد هذا حديثُ يَعلى بن أمِية، قلت لعمر بن الخطاب: إن الله يقول: إِنْ خِفْتُمْ، وقد أمن الناس؟. فقال: عجبتُ مما تعجبتَ منه. فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«صدقة تصدّق بها الله علَيكم، فاقبلوا صدَقته» . وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة وهو آمن.
وليس في الآية ما يدل على تحديد المسافة التي تُقصَرُ فيها الصلاةُ، بل ذَكَرَ مطلقَ السفر، ولذلك أجاز الظاهرية القصر في كل سفر، طال أو قصر. ومذهب مالك والشافعي: أن المسافة أربعة بُردُ، واحتجوا بآثار عن ابن عمر وابن عباس. وقال أبو حنيفة: ستة بُرُد، وكذلك لم يقيد الحقُّ السفرَ بمباح ولا غيره، ولذلك أجاز أبو حنيفة القصر