الوصول إلى حضرة الأحدية، إنه كان بكم رحيما. ثم إذا غلب عليكم بحر الحقيقة، وغرقتم في تيار الذات، غاب عنكم كل ما سواه، وطلبتم منه الرجوع إلى بر الشريعة، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم عن شهود السِّوى، وجحدتم وجوده، لكن القلوب بيد الرحمن، يُقلبها كيف شاء فلا يأمن العارف من المكر، ولو بلغ ما بلغ، ولذلك قال: أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر فتغرقون في الحس، وتشتغلون بعبادة الحس، أو يُرسل عليكم حاصباً: وارداً قَهَّارِيًّا، يُخرجكم عن حد الاعتدال، أم أمنتم أن يُعيدكم في بحر الحقيقة، تارة أخرى، بعد الرجوع للبقاء، فيرسل عليكم واردًا قهاريًا يُخرجكم عن حد الاعتدال، ويحطكم عن ذروة الكمال، ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر كرامة بنى آدم، وتفضيلهم ردّا لقول الشيطان «أَرَأيْتكَ هذا الذي كرمتَ عليّ» ، فقال:
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قاطبة، برهم وفاجرهم، أي: كرمناهم بالصورة الحسنة، والقامة المعتدلة، والتمييز بالعقل، والإفهام بالكلام، والإشارة والخط، والتهدي إلى أسباب المعاش والمعاد، والتسلط على ما في الأرض، والتمتع به، والتمكن من الصناعات، وغير ذلك مما لا يكاد يُحيط به نطاق العبارة. ومن جملته: ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه من أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه، إلا الإنسان يرفعه إليه بيده، وأما القرد فيده بمنزلة رجله لأنه يطأ بها القاذورات فسقطت حرمتها.
وَحَمَلْناهُمْ أي: بني آدم، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ على الدواب والسفن فيمشون محمولين في البر والبحر.
يقال: حملته حملاً: إذا جعلت له ما يركب. وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من فنون النعم، وضروب المستلذات ممَّا يحصل بصُنعهم وبغير صنعهم، وَفَضَّلْناهُمْ بالعلوم والإدراكات، مما رَكَّبْنَا فيهم عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا وهم: من عدا الملائكة- عليهم السلام-. تَفْضِيلًا عظيمًا، فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ولا يكفروها، ويستعملوا قواهم في تحصيل العقائد الحَقِّيَّةِ، ويرفضوا ما هم عليه من الشرك، الذي لا يقبله أحد ممن له أدنى تمييز، فضلاً عمن فُضّل على من عدا الملأ الأعلى، والمستثنى جنس الملائكة، أو الخواص منهم، ولا يلزم من عدم تفضيل الجنس عدم تفضيل جنس بني آدم على الملائكة، عدم تفضيل بعض أجزائه كالأنبياء والرسل، فإنهم أفضل من خواص الملائكة، وخواص الملائكة- كالمقربين مثلاً- أفضل من خواص بني آدم، كالأولياء، والأولياء أفضل من عوام الملائكة. والله تعالى أعلم.