للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ عِبادِي المخلصين، الذين يتوكلون عليَّ في جميع أمورهم، لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي: تسلط وقدرة على إغوائهم حيث التجئوا إليَّ، واتخذوني وكيلاً وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا حافظاً لمن توكل عليه، فيحفظهم منك ومن أتباعك.

ثم ذكر ما يحث على التعلق به، والتوكل عليه في جميع الأحوال الدينية والدنيوية، فقال: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي يجري لَكُمُ الْفُلْكَ ويسيرها فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة والربح، وجَلْبِ أنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم، إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً في تسخيرها لكم حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه في سيرها، وسهل عليكم ما يعسر من أسباب معاشكم ومعادكم.

وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ يعني: خوف الغرق، ضَلَّ غاب عنكم مَنْ تَدْعُونَ من تعبدون من الآلهة. أو: من تستغيثون به في حوادثكم، إِلَّا إِيَّاهُ وحده، فإنكم حينئذ لا يخطرُ ببالكم سواه، ولا تدعون، لكشفه، إلا إياه، فكيف تعبدون غيره، وأنتم لا تجدون في تلك الشدة إلا إياه؟ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الغرق إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن التوحيد، أو عن شكر النعمة، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً بالنعم، جحودًا لها، إلا القليل، وهو كالتعليل للإعراض.

أَفَأَمِنْتُمْ أي: أنجوتم من البحر، وأمنتم أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ بأن يقلبه عليكم وأنتم عليه، أو يخسف بكم في جوفه، كما فعل بقارون، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي: ريحًا حاصبًا، يرميكم بحصباء كقوم لوط، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا حافظاً لكم منه، فإنه لا رادّ لفعله. أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى بأن يخلق فيكم دواعي تحملكم إلى أن ترجعوا لتركبوا فيه فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ أي: ريحًا شديدة، لا تمر بشيء إلا قصفته، أي: كسرته، فَيُغْرِقَكُمْ، وعن يعقوب: «فتغرقكم» على إسناده إلى ضمير الريح. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بنون التكلم في الخمسة. يفعل ذلك بكم بِما كَفَرْتُمْ بكفركم، أي: بسبب إشراككم، أو كفرانكم نعمة الإنجاء، ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً مطالبًا يتبعنا بثأركم، كقوله: وَلا يَخافُ عُقْباها «١» ، أو: لا تجدوا نصيرًا ينصركم منه. والله تعالى أعلم.

الإشارة: العباد الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، هم الذين أضافهم إلى نفسه بأن اصطفاهم لحضرة قدسه، وشغلهم بذكره وأُنسه، لم يركنوا إلى شيء سواه، ولم يلتجئوا إلاَّ إلى حماه. فلا جرم أنه يحفظهم برعايته، ويكلؤهم بسابق عنايته. فظواهرهم قائمة بآداب العبودية، وبواطنهم مستغرقة في شهود عظمة الربوبية. فلمَّا قاموا بخدمة الرحمن، حال بينهم وبين كيد الشيطان، وقال لهم: ربكم الذي يُزجي لكم فلك الفكرة في بحر الوحدة لتبتغوا


(١) الآية ١٥ من سورة الشمس.

<<  <  ج: ص:  >  >>