فيقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، وإن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، وقطع اليد من الرسغ، والرجل من المفصل كالسرقة، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ أي: ينفوا من بلد إلى بلد، ويسجنوا فيه حتى تظهر توبتهم. وقال أبو حنيفة: يسجن في البلد بعينه. ومذهب مالك: أن الإمام مخير في المحارب بين ما تقدم، إلا أنه قال: إن كان قتل فلا بد من قتله، وإن لم يقتل فالأحسن أن يؤخذ فيه بأيسر العقاب.
ظاهره أن العقوبة في الدنيا لا تكون كفارة للمحاربين بخلاف سائر الحدود. ويحتمل أن يكون الخزي في الدنيا لمن عوقب، وفي الآخرة لمن لم يعاقب، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ بأن جاءوا تائبين فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فيسقط عنهم حكم الحرابة، واخُتلف: هل يطالب بما عليه من حقوق الناس كالدماء أم لا؟
فقال الشافعي: يسقط عنه بالتوبة حد الحرابة، ولا يسقط حقوق بني آدم، وقال مالك: يسقط عنه جميع ذلك، إلا أن يُوجد معه مال رجل بعينه، فَيُرَدَّ إلى صاحبه، أو يطلبه ولي دم بدم تقوم البينة فيه، فيقاد به، وأما الدماء والأموال التي لم يطالب بها، فلا يتبعه الإمام بشيء منها.
وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة، يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد، وإن أسقطت العذاب، والآية في قُطَّاع المسلمين لأن توبة المشرك تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها. هـ. قاله البيضاوي. والله تعالى أعلم.
الإشارة: فرق كبير بين من يرجع إلى الله بملاطفة الإحسان، وبين من يقاد إليه بسلاسل الامتحان، هؤلاء المحاربون لم يرجعوا إلى الله حتى أُخذوا وقُتلوا وصُلبوا أو قطعت أيديهم وأرجلهم. وإن رجعوا إليه اختيارًا قبلهم، وتاب عليهم ورحمهم وتعطف عليهم، وكذلك العباد: من رجع إلى الله قبل هجوم منيته قَبِله وتاب عليه، وإن جد في الطاعة قرَّبه وأدناه، وإن تقدمت له جنايات، وقد خرج من اللصوص كثير من الخصوص، كالفضيل، وابن أدهم، وغيرهما، ممن لا يحصى، سبقت لهم العناية فلم تضرهم الجناية. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم حَضَّ على التقوى التي هي مجمع الخير والفوز من كل شر، فقال:
يقول الحق جلّ جلاله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، ولا تسلكوا سبيل بنى إسرائيل الذين جاءتهم الرسل، فعصوا وأفسدوا وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي: اطلبوا ما تتوسلون به إلى رضوانه، والقرب من جناب قدسه