للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أي: صلُبت ولم تلن، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فصرَفهم عن التضرع، أي: لا مانع لهم من التضرع إلا قساوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم.

فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي: تركوا الاتعاظ بما ذُكروا به من البأساء والضراء، ولم ينزجروا، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من أنواع الرزق وضروب النعم، مراوحة عليهم بين نوبَتي الضراء والسراء، وامتحانًا لهم بالشدة والرخاء، إلزامًا للحجة وازاحة للعلة، أو مكرًا بهم، لما روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «مُكر بالقوم ورب الكعبة» «١» . حَتَّى إِذا فَرِحُوا أي: أعجبوا بِما أُوتُوا من النعم، ولم يزيدوا على البطر والاشتغال بالنعم عن المنعم والقيام بحقه، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أي: فجأة، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ مُتحيرون آيسون من كل خير، فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: قطع آخرهم، ولم يبق منهم آحد، وهي عبارة عن الاستئصال بالكلية، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على إهلاكهم، فإن إهلاك الكفار والعصاة نعِمٌ جليلة، يحق أن يحمد عليها من حيث إنه خلاص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم. وبالله التوفيق.

الإشارة: المقصود من إظهار النقم الظاهرة ما يؤول الأمر إليه من النعم الباطنة، فإن الأشياء كامنة في أضدادها، النعمة في النقمة، والرخاء في الشدة، والعز في الذل، والجمال في الجلال، إن وقع الرجوع إلى الله والانكسار والتذلل. «أنا عند المنكسرة قلوبُهم من أجلي» . فانكسار القلوب إلى علام الغيوب عبادة كبيرة، تُوجب نعمًا غزيرة، فإذا قسَت القلوب ولم يقع لها عند الشدة انكسار ولا رجوع، كان النازل بلاءً ونقمة وطردًا وبُعدًا. فإنَّ ما ينزل بالإنسان من التعرفات منها: ما يكون أدبًا وكفارة، ومنها: زيادة وترقية، ومنها: ما يكون عقوبة وطردًا، فإن صحبها التيقظ والتوبة، كان أدبًا مما تقدم من سوء الأدب، وإن صحبه الرضى والتسليم، ولم يقع ما يوجب الأدب، كان ترقية وزيادة، وإن غضب وسخِط كان طردًا وبُعدًا. أعاذنا الله من موارد النقم.

ثم احتج عليهم بوجه آخر، فقال:

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)


(١) لم أقف عليه مرفوعا. وذكره السيوطي فى الدر موقوفا على الحسن، وعزاه لابن أبى حاتم. لكن روى أحمد فى المسند ٤/ ١٤٥ والطبراني فى الكبير ١٧/ ٣٣١ وابن جرير فى التفسير، من حديث عقبة بن عامر مرفوعا: (إن رأيت الله يعطى العبد فى الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (فلما نسوا ما ذكروا به ... ) الآية والتي بعدها) .

<<  <  ج: ص:  >  >>