الإشارة: من شأن العبودية: الضعف والعجز، فلا يستطيع العبد أن يقوم بالأمور التي كلف بها على العدل والتمام، ولو حرص كل الحرص، وجدَّ كل الجد، فلا يليق به إلا التحقق بوصفه والرجوع إلى ربه، فيأتي بما يستطيع ولا يحرص على مالا يستطيع، فلا يميل إلى الدعة والكسل كل الميل، ولا يحرص على مالا طاقة له به كل الحرص، فإن التعقيد ليس من شأن أهل التوحيد، بل من شأنهم مساعفة الأقدار، والسكون تحت أحكام الواحد القهار، فلا تميلوا إلى التعمق والتشديد كل الميل، فتتركوا أنفسكم كالمُعلَّقة، أي: المسجونة، وهذا من شأن أهل الحجاب، يُحبسون في المقامات والأحوال، تشغلهم حلاوة ذلك عن الله تعالى. فإذا فقدوا ذلك الحال أو المقام سلبوا وأفلسوا. وأهل الغنى بالله لا يقفون مع حال ولا مقام، هم مع مولاهم، وكل ما يبرز من عنصر القدرة قبلوه، وتلونوا بلونه، وهذا مقام التلوين بعد التمكين.
وفي إشارة أخرى: اعلم أن القدرة والحكمة كالزوجين للقلب، يقيم عند هذه مدة، وعند هذه أخرى، فإذا أقام عند الحكمة كان في مقام العبودية من جهل وغفلة وضعف وذلة، وإذا أقام عند القدرة كان في مقام شهود الربوبية فيكون في علم ويقظة وقوة وعزة. ولا قدرة له على العدل بينهما، فلا يميل إلى إحداهما كل الميل بل يسير بينهما، ويعطي كل ذي حق حقه، بأن يعرف فضلهما، ويسير بكل واحد منهما. وإن تصلحوا قلوبكم وتتقوا ما يشغلكم عن ربكم، فإن الله كان غفورًا رحيمًا يغفر لكم ميلكم إلى إحدى الجهتين والله تعالى أعلم.
فإذا تعذر الإصلاح بين الزوجين، وأراد الفراق ففى الله الغني عن كل شيء، كما أشار إلى ذلك بقوله:
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ يَتَفَرَّقا أي: يفارق كل واحد منهما صاحبه، يُغْنِ اللَّهُ كل واحد منهما عن صاحبه، ببدل أو سُلُو يقوم بأمره من رزق أو غيره، من سعة غناه وكمال قدرته، وَكانَ اللَّهُ واسِعاً بقدرته حَكِيماً أي: متقنًا في أحكامه وأفعاله. ثم بيَّن معنى سعته فقال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي: كل ما استقر فيهما فهو تحت حكمه ومشيئته، قائمًا بحفظه وتدبيره، يعطي كل واحد ما يقوم بأمره ويغنيه عن غيره. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن الروح ما دامت مسجونة تحت قهر البشرية، محجوبةً عن شهود معاني الربوبية، كانت فقيرة جائعة متعطشة، تتعشق إلى الأكوان وتفتقر إليها، وتقف معها، فإذا فارقت البشرية وانطلقت من سجن هيكلها،