ثم نهى أهل الكتاب عن الغلو فى عيسى، فقال:
[[سورة المائدة (٥) : آية ٧٧]]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَهْلَ الْكِتابِ أي: النصارى، لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وتقولوا قولاً غَيْرَ الْحَقِّ وهو اعتقادكم في عيسى أنه إله، أو أنه لغير رشدة، ولا تفرطوا، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ سلفوا قبلكم، وهم أئمتكم في الكفر، قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ أي: من قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم، وَأَضَلُّوا أناسًا كَثِيراً حملوهم على الاعتقاد الفاسد في عيسى وأمه، فقلدوهم وضلوا معهم، وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي: عن قصد السبيل المستقيم، وهو الإسلام بعد مبعثه صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: الضلال الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل، والثاني إشارة إلى ضلالهم عما جاء به الشرع. قاله البيضاوي.
الإشارة: الغلو كله مذموم كما تقدم، وخير الأمور أوسطها، كما تقدم. وقد رخص في الغلو في ثلاثة أمور:
أحدها: في مدح النبي صلى الله عليه وسلّم فلا بأس أن يبالغ فيه ما لم يخرجه عن طور البشرية، وهذا غلو ممدوح، مقرب إلى الله تعالى، قال في بردة المديح:
دع ما ادَّعَتهُ النَّصَارى في نَبيّهم ... واحكُم بما شِئتَ مَدحًا فيهِ واحتكَم
الثاني: في مدح الأشياخ والأولياء، ما لم يخرجهم أيضًا عن طورهم، أو يغض من مرتبة بعضهم، فقد رخصوا للمريد أن يبالغ في مدح شيخه، ويتغالى فيه، بالقيدين المتقدمين لأن ذلك يقربه من حضرة الحق تعالى.
والثالث: في تعظيم الحق جل جلاله. وهذا لا قيد فيه ولا حصر. حدث عن البحر ولا حرج، إذا كان ممن يحسن العبارة ويتقن الإشارة، بحيث لا يوهم نقصًا ولا حلولاً. وبالله التوفيق.
ولما ذكر مساوئ النصارى ذكر مساوئ اليهود، فقال:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٨ الى ٨١]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)