ولمّا كان البخل هو معيار المخلصين من المخلطين، ذكره بإثر تمييز المؤمنين من المنافقين، فقال:
[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٠]]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
قلت: من قرأ بالخطاب فالموصول مفعول أول، و (خيراً) : مفعول ثان، والضمير للفصل، والخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم، ولا بد من حذف مضاف، أي: لا تحسبن بُخلَ الذين يبخلون خيراً لهم، ومن قرأ بالغيب ف- (الذين) :
فاعل، والمفعول الأول محذوف، لدلالة (يبخلون) عليه، لا يحسبن البخلاء بخلهم خيراً لهم، والطوق: ما يدار بالعنق.
يقول الحق جلّ جلاله: ولا يظنن الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من الأموال، فلم يؤدوا زكاتها، أن بخلهم خير لهم، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ لاستجلابه العذاب إليهم، ثم بيَّنه بقوله: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ أي: يلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق للعنق، وقيل: يطوق به حقيقة، لقوله عليه الصلاة والسلام:
«ما من رَجُل لا يؤدي زكاة ماله إلا إذا كان يوم القيامة- مُثِّلَ له شُجَاعاً أقْرع، له زَبِيبتَان، يطوِّقُه، ثم يأخُذُ بِلْهزِمتيه- أي: شدقيه- يقول: أنا كنْزكَ، أنا مَالُكَ، ثُم تَلا هذه الآية: وَلا يَحْسَبَنَّ ... » . وقيل: يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقاً من نار.
والمال الذي بخل به هو لله، وسيرجع لله، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو الذي يرث الأرض ومن عليها، فكيف يبخل العبد بمال الله، وهو يعلم أنه يرجع لله، فيموت ويتركه لمن يسعد به! ولله درّ القائل، حيث قال:
يا جَامِعَ الْمَالِ كَمْ تُضَرُّ به ... تَطْمَعُ بالله فِي الخُلُودِ معَهْ
هَلْ حَمَل المالَ ميّت معه؟ ... أما تراه لِغَيْرِه جَمَعَهْ؟!
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لا يخفى عليه منعكم ولا إعطاؤكم، فيجازي كُلاً بعمله.
الإشارة: لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضل الرئاسة والجاه، أن يبذلوها في طلب معرفة الله، وبذلها: إسقاطها وإبدالها بالخمول، والذل لله، وإسقاط المنزلة بين عباد الله، فلا يظنون أن بخلهم بذلك خير لهم، بل هو شر لهم، سيلزمون وبال ما بخلوا به يوم القيامة، حين يرون منازل المقربين كالشمس الضاحية في أعلى عليين، وهم مع عوام أهل اليمين، محجوبون عن شهود رب العالمين، إلا في وقت مخصوص وحين.