ثم إن الحسود لا تزول عداواته، ولا تنفع مداواته، وهو ظالم يشتكي كأنه مظلوم. ولقد صدق القائل:
كلُ العَدَاوةِ قد تُرجىَ إزالتُها ... إلا عداوة مَن عَادَاكَ مِن حَسَدٍ
وقال حكيم الشعراء:
وأظلمُ خَلقِ اللهِ مَن بَاتَ حَاسِدًا ... لِمَن بَاتَ في نَعمَائِه يَتَقَلَّبُ
وقال آخر:
أني لأرحمُ حاسِدِيَّ لفرطِ ما ... ضَمَّت صُدُوُرُهُم مِن الأوغَارِ
نَظَرُوا صنيعَ اللهِ في فَعُيُونهُم ... في جَنَّةٍ وقَلوبُهُم في نارِ
قال بعض الحكماء: (الحاسدُ يضرُّ نفسه ثلاث مضرات: إحداها: اكتساب الذنوب لأن الحسد حرام. الثانية:
سوء الأدب مع الله- تعالى- فإنَّ حقيقة الحسد: كراهية إنعام الله على غيره، واعتراض على الله في فعله. الثالثة:
تألم قلبه وكثرة همه وغمه) . عافانا الله من ذلك كله، فالحاسد لا ينفك عن نار الحجاب وغم الحساب، والمتطهر منه يدخل جنة الرضى والتسليم في جوار الحبيب، وهو محل الراحة والأمن في الدارين، وهو الظل الظليل. والله تعالى أعلم.
ولما كان حفظ نظام الدين لا يقوم إلا بالجهاد، ولا ينتظم الجهاد إلا بنصب الإمام، تكلم الحق- جل جلاله- على ما يتعلق بالأمراء، ثم بعد ذلك يتكلم على الجهاد، فقال:
[[سورة النساء (٤) : آية ٥٨]]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨)
قلت: «ما» في (نِعِمَّا) تمييز أو فاعل، والمخصوص محذوف، أي نعم شيئًا شيء يعظكم به، أو نعم الذي يعظكم به ذلك الأمر، وهو رد الأمانات والعدل في الحكومات.
قال زيد بن أسلم وشهر بن حوشب: نزلت الآية في شأن الأمراء. هـ قلت: وأن نزلت في شأن عثمان بن طلحة- سَادِن الكَعبَةِ فهي عامة. والمخاطب بذلك أولاً الرسول صلّى الله عليه وسلم وهو سيد الأمراء، أمره الحق- تعالى- أن يرد المفاتح إلى عثمان، وذلك أن عثمان أغلق باب الكعبة يوم فتح مكة، وأبى أن يدفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل