يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
أي: ما غاب فيهما عنكم، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
، تعليل لِمَا قبله لأنه إذا عَلِمَ ما في الصدور، وهي أخفى ما يكون، فقد عَلِمَ كل غيب في العالم. وذات الصدور: مضمراتها ووساوسها. وهي تأنيث «ذو» ، بمعنى: صاحب الوساوس والخطرات، تصحب الصدور وتُلازمها في الغالب، أي: عليم بما في القلوب، أو بحقائقها، على أن «ذات» بمعنى الحقيقة.
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي: جعلكم خلفاء عنه في التصرُّف في الأرض، قد ملككم مقاليد التصرُّف فيها، وسلطكم على ما فيها، وأباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة. فَمَنْ كَفَرَ منكم، وغمط مثل هذه النعمة السنيّة، فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ فوبالُ كفره راجعٌ عليه، وهو مقتُ الله، وخسران الآخرة، كما قال تعالى: وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً، وهو أشد البغض، وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً: هلاكاً وخسراناً.
الإشارة: إن الله عالم بما غاب في سموات الأرواح، من أسرار العلوم والمكاشفات، والاطلاع على أسرار الذات، وأنوار الصفات، وما غاب في أرض النفوس من الموافقات أو المخالفات، إنه عليم بحقائق القلوب، من صفائها وكدرها، وما فيها من اليقين والمعرفة، وضدهما.
قال القشيري: إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
، بإخلاص المخلصين، وصدق الصادقين، ونفاق المنافقين، وجحد الكافرين، ومَن يريد بالناس شرًّا، ومَن يُحْسِن بالله ظَنًّا. هـ.
وقال في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ: أهل كلِّ عصرٍ خليفة عصر تقدمهم، فَمِنْ قومِ هم أنفسهم جَمال، ومن قوم أراذل وأنذال، والأفاضلُ زمانهم لهم محنة، والأراذلُ هم لزمانهم محنة. وحاصل كلامه:
أن قوماً عرفوا حق الخلافة، فقاموا بحقها، وشكروا الله عليها، بالقيام بطاعته، فكانوا في زمانهم جمالاً لأنفسهم، ولأهل عصرهم، لكنهم لَمَّا تحمّلوا مشاق الطاعات، وترادف الأزمات، كان زمانهم لهم محنة. وقوماً لم يعرفوا حق الخلافة، فاشتغلوا بالعصيان، فانتحس الزمان بهم، فكانوا محنة لزمانهم.
ثم ردّ على مَن كفر بالشرك، فقال:
[[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤٠]]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠)