قلت: إنما كرره لأن الأولى في غير المدخول بها، إذا طُلقت قبل الفرض، وهذه في المدخول بها، وعبَّر أولاً بالمحسن: لأن المتعة قبل الدخول لا يعطيها إلا أهل الإحسان لأن المطلق لم يحصل له تمتع بالزوجة، بخلاف الثاني، فمطلق المدخول بها، التقوى تحمله على الإمتاع.
وقيل: لمّا نزلت الآية الأولى، قال رجل من المسلمين: إنْ أحسنتُ مَتَّعْتُ وإلاَّ تَركتُ، فنزلت الثانية تأكيداً.
وقال: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ الشرك، أي: على كل مؤمن، وحكمها: الندب، عند مالك، على تفصيل ذكره في المختصر، فقال عاطفاً على المندوب: والمتعة على قدر حاله، بعد العدة للرجعة، أو ورثتها، ككل مُطَلَّقة في نكاح لازم، لا في فَسْخ كلعَانٍ وملك أحد الزوجين، إلا من اختلعَتْ، أو فُرض لها وطُلقت قبل البناء، ومختارة لعتقِها أو لِعَيْبه أو مُخَيَّرَة أو مُمَلَّكة.
الإشارة: كل من طلق نفسه وخالف هواها تمتع بحلاوة المعاملة مع ربه، فمن اتصل بشيخ التربية تمتع بحلاوة العبادة القلبية كالشهود والعيان، ومن لم يتصل بالشيخ تمتع بحلاوة العبادة الحسية. فالآية الأولى في المريدين والواصلين، وهذه الآية في العُبَّاد والزهاد، ولذلك عبّر في الأولى بالمحسنين، وفي الثانية بالمتقين، والله تعالى أعلم.
ثم حذّر من الفرار من الموت، توطئة للترغيب فى الجهاد، فقال:
[[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٣]]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣)
قلت: الاستفهام للتعجب والتشويق، والرؤية قلبية، والواو للحال، و (حَذَرَ) مفعول من أجله.
يقول الحق جلّ جلاله: ألم تنظر يا محمد، بعين الفكر والاعتبار، إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ عشرة، أو ثلاثون، أو أربعون، أو سبعون، حذراً من الْمَوْتِ في زمن الطاعون.
وكانوا في قرية يقال لها: (داوردان) فلما وقع بها الطاعون، خرجت طائفة هاربين، وبقيت أخرى، فهلك أكثر من بقي، وسلم الخارجون، ثم رجعوا، فقال الباقون: لو صنعنا مثلهم لبقينا، لئن أصابنا الطاعون مرة ثانية لخرجنا، فأصابهم من قابل، فهربوا كلهم، ونزلوا وادياً أفيح «١» ، فناداهم ملك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه، أن:
(١) الأفيح والفياح: كل موضع واسع، ومنه: روضة فيحاء. [.....]