للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

متواضعين خائفين، أي: إنما نالوا هذه المراتب العلية، واستحقوا هذه الخصوصية لاتصافهم بهذه الأوصاف الحميدة. والله تعالى أعلم.

الإشارة: الغالب في وراثة الخصوصية الحقيقية أن تكون لغير ورثة النسب، وأما الخصوصية المجازية، التي هي مقام الصلاح أو العلم، فقد تكون لورثة النسب، وتكون لغيرهم. والخصوصية الحقيقية هي مقام الفناء والبقاء، والتأهل للتربية النبوية، ولا بأس بطلب وارث هذه الخصوصية، لئلا ينقطع النفع بها. وقد قيل، في قول الشيخ ابن مشيش رضى الله عنه: اسمع نداءى بما سمعت به نداء عبدك زكريا، إنه أشار إلى طلب الوارث الروحاني. والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، فيه إشارة إلى بيان سبب حصول الخصوصية لأن بابها هو المسارعة إلى عمل الخيرات وأنواع الطاعات، وأوكدها ثلاثة: دوام ذكر الله، وحسن الظن بالله، وبعباد الله. وفي الحديث: «خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حُسْن الظنِّ بالله، وحُسْن الظن بعباد الله» . وقوله: وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً، هذه حالة الطالبين المسترشدين المتعطشين إلى الله، يدعونه رغبًا في الوصول، ورهبًا من الانقطاع والرجوع، وقد تكون للواصلين رغبًا في زيادة الترقي، ورهبًا من الوقوف أو الإبعاد. وقال بعضهم: الرغب والرهب حاصلتان لكل مؤمن، إذ لو لم تكن رغبة لكان قنوطًا، وهو كفر، ولو لم تكن رهبة لكان أمنًا، والأمن كفر.

والله تعالى أعلم.

ثم ذكر مريم وابنها- عليهما السلام- فقال:

[[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩١]]

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)

يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها على الإطلاق من الحلال والحرام، والتعبير عنها بالموصول لتفخيم شأنها، وتنزيهها عما زعموه في حقها. فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أي: أجرينا روح عيسى فيه وهو في بطنها، أو نفخنا في درع جيبها من ناحية روحنا، وهو جبريل عليه السلام، فأحدثنا بذلك النفخ عيسى عليه السلام، وإضافة الروح إليه تعالى لتشريف عيسى عليه السلام، وَجَعَلْناها وَابْنَها أي:

قضيتهما، أو حالهما، آيَةً لِلْعالَمِينَ، فإن من تأمل حالهما تحقق بكمال قدرته تعالى. وإنما لم يقل آيتين، كما قال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ «١» لأن مجموعهما آية واحدة، وهي ولادتها إياه من غير فحل. وقيل:

التقدير: وجعلناها آية وابنها كذلك، فآيةٌ مفعول المعطوف عليه، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. والله تعالى أعلم.


(١) من الآية ١٢ من سورة الإسراء.

<<  <  ج: ص:  >  >>