قلت: إن كان المراد بالنجوى الكلام الخفي فالاستثناء منقطع، وقد يكون متصلاً على حذف مضاف أي: إلا نجوى مَن أمر ... الخ. وإن كان المراد بالنجوى الجماعة المتناجين، فالاستثناء متصل. قاله ابن جزي.
يقول الحق جلّ جلاله محرّضًا على الصمت: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مما يتناجون به في شأن السارق أو غيره، بل لا خير في الكلام بأسره إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ واجبة أو تطوعية، فله مثل أجره، أَوْ مَعْرُوفٍ وهو: ما يستحسنه الشرع، ويوافقه العقل، كالقرض، وإغاثة الملهوف، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وغير ذلك من أنواع المعروف. أو أمر بإصلاح بَيْنَ النَّاسِ، أي: إصلاح ذات البين، كإصلاح بين طعمة واليهودي وغيرهما.
قال مجاهد:(هي عامة للناس) ، يريد أنه لا خير فيما يتناجى فيه الناس، ويخوضون فيه من الحديث، إلا ما كان من أعمال الخير.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي: الصدقة، والمعروف والإصلاح، ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي: مُخلصًا لله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وخيرًا جسيمًا. قال البيضاوي: بَنَى الكلامَ على الأمر، ورتَّب الجزاء على الفعل، ليدل على أنه لما دخل الآمر في زمرة الخَيّرين كان الفاعل أدخل فيهم، وأن العمدة والغرض هو الفعل، واعتبار الأمر من حيث إنه وصلة إليه. وقيد الفعل بأن يكون لطلب مرضاة الله لأن الأعمال بالنيات، وإن من فعل خيرًا رياء وسمعة، لم يستحق بها من الله أجرًا، ووصف الأجر بالعظم تنبيهًا على حقارة مافات في جنبه من أغراض الدنيا. هـ.
الإشارة: في الآية حثٌّ على الصمت، وهو ركن قوي في طريق التصوف، وهو أحد الأركان الأربعة التي هي: العزلة والجوع والسهر، فهذه طريق أهل البداية، ومن لا بداية له لا نهاية له، وقالوا: بقدر ما يصمت اللسان يعمر الجنان، وبقدر ما كان يتكلم اللسان يخرب الجنان. وقالوا أيضًا: إذا كثر العلمُ قلَّ الكلام، وإذا قل العلم كثر الكلام. وقالوا أيضًا: من عرف الله كَلَّ لسانهُ. وقيل لبعض العلماء: هل العلم فيما سلف أكثر، أو اليوم أكثر؟ قال:
العلم فيما سلف أكثر، والكلامُ اليومَ أكثر.
وفي قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ.. إشارة إلى أن العمل أشرف من العلم بلا عمل. والله تعالى أعلم.