يقول الحق جلّ جلاله: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون الْقُرْآنَ، وينظرون ما فيه من البلاغة والبيان، ويتبصّرون في معاني علومه وأسراره، ويطلعون على عجائب قصصه وأخباره، وتَوافُق آياتهِ وأحكامه، حتى يتحققوا أنه ليس من طوق البشر، وإنما هو من عند الله الواحد القهار، وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً بَين أحكامه وآياته، من تَفَاوتِ اللفظ وتناقض المعنى، وكَون بعضه فصيحًا، وبعضه ركيكًا، وبعضه تصعب معارضته وبعضه تسهل، وبعضه توافق أخباره المستقبلة للواقع، وبعضه لا يوافق، وبعضه يوافق العقل، وبعضه لا يوافقه، على ما دلّ عليه الاستقراء من أن كلام البشر، إذا طال، قطعًا يوجد فيه شيء من الخلل والتناقض.
قال البيضاوي: ولعل ذكره للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام ليس للتناقض في الحكم، بل لاختلاف الأحوال من الحكم والمصالح. هـ. قال ابن جزي: وإن عَرَضَت لأحدٍ شبهةٌ وظن اختلافًا في شيء من القرآن، فالواجب أن يَتَّهِمَ نظره، ويسأل أهل العلم ويطالع تآليفهم، حتى يعلم أن ذلك ليس باختلاف. هـ.
الإشاره: تدبر القرآن على حسب صفاء الجنان، فبقدر ما يتطهر القلب من حب الدنيا والهوى تتجلى فيه أسرار كلام المولى، وبقدر ما يتراكم في مرآة قلبه من صور الأكوان، ينحجب عن أسرار معاني القرآن ولو كان من أكابر علماء اللسان. فلما كان القرآن هو دواء لمرض القلوب، أمر الله المنافقين بالتدبر فى معانيه لعل ذلك المرض ينقلع عن قلوبهم، لكن الأقفال التي على القلوب مَنَعَت القلوبَ من فهم كلام علام الغيوب، فحلاوة كلام الله لا يذوقها إلا أهل التجريد، الخائضون في تيار بحار التوحيد، الذين صَفَت قلوبُهم من الأغيار، وتطهرت من الأكدار، يتمتعون أولاً بحلاوة الكلام، ثم يتمتعون ثانيا بحلاوة شهود المتكلم. والله تعالى أعلم.
ومن مساوئ المنافقين إفشاء أسرار المؤمنين، كما قال تعالى:
قلت: استنبط الشيء: استخرجه من غيره، وأصل الاستنباط: إخراج النبط، وهو الماء، يخرج من البئر أول ما يحفر، والجار في (منهم) : إما بيان للموصول، أي: لعلم المستنبطون الذين هم أولوا الأمر، أو يتعلق ب (علم) ، أي: