للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأخرجها من يده، عناية به، فإذا أشغالها وعلائقها كانت تسعى في هلاكه وخراب قلبه وتضييع عمره، فأوجس في نفسه خيفة من العيلة ولحوق الفاقة، قلنا: لا تخف، حيث توجهت إلى مولاك، فإن الله يرزق بغير حساب وبلا أسباب، وأَلقِ ما في يمين قلبك من اليقين، تلقف ما صنعوا، أي: ما صنعت بِكَ خواطر السوء والشيطان، لأنه يَعدِ بالفقر ويأمر بالفحشاء، وإنما صنعوا ذلك تخويفًا وتمويهًا، لا حقيقة له، كما يفعل الساحر، (ولا يفلح الساحر حيث أتى) .

ثم ذكر إسلام السحرة، وما كان من شأنهم، فقال:

[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٠ الى ٧١]

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١)

قلت: (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) ، قال المحلي: أي: عليها، وهو مذهب كوفي، وأما مذهب البصريين فيقولون: ليست «فِي» بمعنى «على» ، ولكن شبه المصلوب، لتمكنه في الجذع، بالحالّ في الشيء، وهو من الاستعارة التعبيرية.

و (مِنْ خِلافٍ) : في موضع الحال، أي: مختلفات.

يقول الحق جلّ جلاله: فلما ألقى موسى عصاه انقلبت حية عظيمة، فابتلعت تلك الحبال والعصي، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية من آيات الله. رُوي أن رئيسهم قال: كنا نغلب أعين الناس، وكانت الآلات تُبقى علينا، فلو كان هذا سحرًا، فأين ما ألقينا من الآلات؟ فاستدلوا بما رأوا على صحة رسالة موسى. فألقاهم ما شاهدوه على وجوههم، فتابوا وآمنوا، وأتوا بما هو غاية الخضوع، قيل: لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار، والثواب والعقاب. وعن عكرمة: لما خروا سُجدًا، أراهم الله تعالى، في سجودهم، منازلهم في الجنة. ولا ينافيه قولهم: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا، لأن كون تلك المنازل منازلهم هو السبب في صدور هذا القول منهم.

قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى، قدّموا هارون إما لكبر سنه، أو للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطل من جهة فرعون، حيث كان ربَّى موسى عليه السلام في صغره، فلو قدّموا موسى لربما توهم اللعين وقومه، من أول الأمر، أن مرادهم فرعون، فأزاحوا تلك الخطرة من أول مرة. قالَ آمَنْتُمْ لَهُ أي: لموسى، واللام لتضمن الفعل معنى الانقياد والخضوع، أي: أذعنتم له قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي: من غير أن آذن لكم، إِنَّهُ أي:

موسى لَكَبِيرُكُمُ أي: أستاذكم وأعلمُكم في فنكم، الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ، فتواطأتم على ما فعلتم. وهذه منه شبهة واهية أين كان موسى عليه السلام، وأين كان السحرة، حتى علمهم؟ ولكن صدر منه هذا خوفًا على الناس أن يتبعوا موسى عليه السلام، ويقتدوا بالسحرة، فأوهم عليهم، مع ما سبق في علم الله من ضلالتهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>